الديار، وكأنك لا تحيا بيننا تلك الشهور من كل عام، إلا لكي تقضي هذه الأشهر بعيداً عنا. فيا عجبا! أي شيء هذا السم الزعاف الذي يملأ هواء بلادنا، ويحملنا على أن نجد في البعد عنها، ويُنفِّر الابن البار من أمه البرّة؟ أهو هواؤها الحار، أم مجتمعها الفاتر، أم ما يحيق بها من ظلم وجحود، ومن حرج وضيق؟
لقد أخذت سفينتك تبتعد، ولم تلبث أن اختفت عن الأبصار وأضحت كأمل البائس لا تزداد على المدى إلا بعدا. وكأني بك واقفا على ظهرها، تتنفس نفسا عميقا، لكي تخرج من رئتيك ما قد ثوى فيهما من هواء؛ كأنك لا تريد أن تحتفظ حتى بهذا القدر القليل من الذكرى. . . بل تريد أن تأخذ عدتك لحياة جديدة، وأيام سعيدة. فما أخلفك إلا تبقي للشقاء الغابر في نفسك أثراً؟
لكن أمامك في السفينة أيام لا أراني غابطك عليها، بين أناس قد اتخذوا الدعة شعاراً، يصبحون كسالى، ويمسون كسالى، لا يعرفون جدّاً ولا دأبا، أقصى همهم أكلة لذيذة يصيبونها! أو رقدة طويلة يستطيبونها، وما عرفت الناس أدنى إلى الأنعام في مكان منهم على ظهر سفينة. . . قصارى جهد كل منكم أن يقتل الوقت، وأن يتخذ لذلك سبلا شتى: فمنكم العاكف على الشراب، لا يشفي غليله الإسراف فيه. ومنكم المكب على الورق يتسلى بإتلاف القليل من دراهمه أو الكثير. وبعضكم يلتمس اللهو في ألعاب تافهة، أو في تقليب صفحات كتاب هزيل. إذ لا يستطيع أن يجشم نفسه مشقة أو جهداً.
ولقد تقدم العالم في طريق المادة، وجاء الاختراع بسفن ذات قوة وجسامة، ولكن الركب ما برحوا اليوم كما كانوا في قديم الزمن: دود على عود!
أحسبك تتوهم أن سيتاح لك وأنت بالسفينة أن تلتقي بأعظم الرجال، واجمل النساء، ولست أدري على أي َعمدٍ قام في نفسك مثل هذا الرجاء؟ وهو لعمرك جدير بما يصيبه من الخيبة المرة بعد المرة. انك تظن أن العظمة والجمال في العالم من الكثرة بحيث يجوز أن يكون لكل سفينة تشق البحار نصيب منهما، وخيل اليك ان السفينة خير دار تلقاهما فيها، حيث لا مفر لهما منك. وان المجال الضيق كفيل بان يجعل الناس بعضهم مقبلا على بعض والوقت طويل مديد، لابد للناس ان يتعاونوا على قطعه بالحديث والسمر: فالفرصة أذن مؤاتية (فيما كنت تزعم) لأن تنعم نفسك بحديث العظمة ومرأى الجمال.