هذا المحرم قد وافتك صارخة ... مما استحلوا به أيامُه الحرم
يملأن سمعك من أصوات ناعية ... في مسمع الدهر من إعوالها صمم
تنعى إليك دماءً غاب ناصرها ... حتى أريقت ولم يرفع لكم علم
جاء المحرم فالمساجد العراقية مجللة بالسواد، والوجوه تعلوها الكآبة، هنا وهناك عويل ونواح يكربان القلب. الصدور موجعة بضرب الأيدي، والمتون مكلومة باللدم بالسلاسل النحاسية، والنفوس فزعة جزعة قد تملكها الهلع إذ خلبتها الألسن الذلقة التي لم تدع أسلوباً لتهويل فاجعة كربلاء إلا ركبت سبيله الأوعر والأشد إيلاماً والأنكى لذعة ولوعة. مواكب تجلببت السرابيل المضاعفة من الحزن خنقها الأسى فلا تأسى، ورؤوس تشج بحد السيوف، ودماء تراق على مذبح فاجعة كربلاء، فما قيمة العبرات والزفرات والدموع المنصبة على أقدام هذه المأساة المؤلمة التي لم يع التاريخ أفجع منها ولا أكثر جلبة من تبعاتها. ففي إيران والعراق والهند وسورية والحجاز وهنا وهناك مآتم ومناحات تعقد لتكسب العبرات وتنفث الزفرات، فكأن نفس الشرقي الحالمة بالأشباح والرؤى، المفعمة بالطموح وأحلام الغيب، المتبرمة بالحياة وأحكامها التي ترزح بأعبائها - وجدت في هذه المأساة مجالاً واسعاً لإعلان عويلها والتنفيس عن كربها.
وإن شيعة العلويين التي لم تهيمن على مقدرات البلاد ولم تسيطر على أزمة الحكم وتقبض على السلطة الزمنية إلا قليلاً، بقيت طوال الدهر ناقمة ساخطة على الدهر الهازل، ساخرة من أقداره المملوءة بالمهازل، فشاعرها (السيد جعفر الحلي صاحب ديوان سحر بابل وسجع البلابل) يقول:
وجه الصباح عليّ ليل مظلم ... وربيع أيامي علي محرم
بي قرحة لو أنها بيلملم ... نسفت جوانبه وساخ يلملم
ما خلت أن الدهر من عاداته ... تروي الكلاب به ويظما الضيغم