عندما فرغت من قراءة مقالك الثائر على كتابي الثائر، ذلك المقال الذي طلعت به على الناس منذ قريب على صفحات (الثقافة) ارتسمت على شفتي ابتسامة عابرة. . . أول معانيها أنني أحب أن أنصف الحقيقة مهما كان طعمها مر المذاق بالنسبة إلى الآخرين، وسأنصفك دائماً سواء لقيتك بالرفق والهوادة أم لقيتك بالعنف الذي لا يلين! وأرجو أن يتسع صدرك لثورتي كما اتسع صدري لثورتك، لأن المشكلة الكبرى التي تقوم بيننا ويجب أن ينفذ إلى أغوارها القراء، هي أن يعرفوا على التحقيق أي ثائر أنا وأي ثائر أنت!
أنت يا صديقي ثائر علي، وثائر على نفسك، وثائر على غيري وغيرك من شيوخ الأدب وشبابه، لا تكاد تعترف بأن لنا جميعاً في محيط الأدب والفن ذرة من الأصالة الخالقة. . ترى هل أنت هنا ثائر أصيل؟ لا أظن! بل إن ثورتك هذه لتجعلني أعبر الآماد والأبعاد، وأطوي السنين والأيام، وأرتد على جناح الخيال إلى ذلك الماضي البعيد، الماضي الذي يذكرني بطفولتي الثائرة. . لقد كنت في ذلك الحين طفلاً ساخطاً على كل أمر من الأمور، ساخطاً على كل وضع من الأوضاع، لا أكاد أرضى عن شيء، ولا أكاد أقبل على طعام، ولا أكاد أترك طفلاً من الأطفال بغير اعتداء! يقدمون إلي أبهى الثياب فأقول لهم ليس عندكم ما يلبس، ويعرضون علي أشهى الأطعمة فأقول لهم ليس عندكم ما يؤكل، ويقبل علي الأصدقاء الصغار فأصفع هذا وأركل ذاك، ومنطق التبرير لهذا العدوان العجيب أنهم (جميعاً) لا يستحقون مني أي اعتراف بالجميل. . كنت أفعل هذا كله وما هو أكثر منه فإذا اعترض علي معترض من الأهل ضربت الأرض بقدمي، ولوحت في الهواء بيدي، وبدأت عملية التحطيم في أرجاء البيت لا تبقي ولا تذر: كل ما في طريقي يجب أن يزول، وكل ما في طريقي يجب أن يدمر، ولا فرق في ثورة الطفولة مثلاً بين لوحة فنية وبين آنية زجاجية، لأن منطق الطفولة لا يعترف بقيم الأشياء، فهي في محيط إدراكه القاصر وأمام ناظريه سواء!!