حم قضاء الله ومضى الرجل العظيم مستقبلاً وجه الخلود! والرجولة والعظمة صفتان تجمعان ما أوتي عبد العزيز فهمي باشا من مناقب مصدرها خلقه، ومواهب مظهرها عمله. كان رجلاً بالمعنى الرفيع الذي يفهمه المهذب من لفظ الرجل، وكان عظيماً بالمعنى الجميع الذي يدركه المثقف من كلمة العظيم. ولو ذهبت تحلل حياة أول القضاة في سجل القضاء، وثاني الزعماء في سجل السياسة إلى عواملها الأولية، لوجدتها في الخلال الصدق والصراحة والإباء والشجاعة وهذه هي الرجولة، وفي الأعمال العمق والشمول والإتقان والتفرد وهذه هي العظمة. وفقد رجل كهذا الرجل حياته تأريخ، وعمله رسالة، وخلقه قدوة، وكفايته ثروة، خسارة إنسانية لا خسارة قومية، ومصاب آمة لا مصاب أسرة، وفجيعة منفعة لا فجيعة عاطفة. فإذا جزع الشعب لموته هذا الجزع فإنما يجزع لركن هوى لا لغصن ذوى، ولهاد مضى لا لصديق قضى. والجزع على العظماء لا يكون بالعبرات التي تطفىء، وإنما يكون بالحسرات التي تحرق، والخطب الذي يبكي العيون، أهون من الخطب الذي يدمي القلوب. ومن يقف أمام الحصن الذي ينسف، أو الكنز الذي يخسف، يجد في نفسه الروع الذي يذهل، لا الحزن الذي يعول.
كان عبد العزيز فهمي جزءاً ضخماً من ثروة مصر العلمية. وهذه الثروة لا تزال من حيث الكيف ضئيلة. فإن العباقرة الذين هيأتهم إلى العلم الصحيح طبائعهم الحرة وملكاتهم الأصيلة لا يزالون بيننا آحاداً. وقل من هؤلاء الآحاد من جمع إلى العلم سمو العالم ونزاهة المصلح كما جمعهما الفقيد. واجتماع هذه المزايا فيه لا يعلله معلل من نشأته وبيئته ودراسته. فإن هذه العوامل نفسها أو شبهها أثرت في غيره من أهل جيله، ولكن مصر لم تظفر من بينهم بمثيله. هناك أمر قد يكون مفتاح السر وطريق المجهول: ذلك أنه تلقى دراسته الأولى في الأزهر كما تلقاها فيه محمد عبده وسعد زغلول وإبراهيم الهلباوي. وهؤلاء جميعاً قد تشابهوا في قوة الشخصية ونفوذ العقلية، فدرسوا الفقه بعمق، وعالجوا البيان بحدق، وزاولوا المحاماة ببراعة، وتولوا القضاء بجدارة، ومارسوا السياسة بخبرة. ولكنه أنفرد من دونهم جميعاً بخصائص خلقية جعلت ذلك التشابه تغايراً في بعض نواحي الرجولة. كان رحمه الله لا ينافق ولا يمالق، ولا يداهي ولا يداحي، ولا يدلس ولا يلبّس، ولا يقول إلى ما يصح في معتقده، ولا يعتقد إلا ما يصح في رأيه. وهذه الصفات قد تجعل