من مفاليك العامة جماعة انتسبوا إلى علماء الدين كما ينتسب الزوان إلى الحنطة. نالوا شهادة العلم بالغش، ولبسوا شارة الدين بالباطل، وبلغوا مناصب الدنيا بالملق؛ ثم اندسوا في المجتمع اندساس الإثمفي الضمير، أو الداء في البدن، فكانوا في الوحدة مظهر تفريق، وفي النهضة مصدر تعويق، وفي العقيدة مثار شبهة. ثم اتخذوا من دورهم معامل لتفريخ الأكاذيب، ومن ندواتهم وسائل لترويج الشوائع! يشيعون الفاحشة في الذين آمنوا، ويثيرون الريبة في الذين عملوا، ويقعدون من حركات الإصلاح مقاعد للتربص والتلصص؛ فإذا دعاهم المصلح هبوا في وجهه هبة الريح العاتية على المصباح الهادي؛ وإذا دعاهم المفسد نفحوا قلبه الهادئ نفح النسيم الرخي للنار المشتعلة! ذلك لأنهم لا يختلون فرأسهم إلا في الظلام، ولا يشوون ذبائحهم إلا في الحريق. ينفرون من العبير كما تنفر الجعلان، ويفرون من النور كما تفر الخفافيش، ويموتون من الطهر كما تموت الجراثيم، ويفزعون من الخير كما تفزع الشياطين! أما الروح، وأما الدين، وأما الخلق، وأما الأدب، فهي ألفاظ شأنها في صدروهم كشأنها في المعجم: صفات لا تدل على موصوف، وكلمات لا تزيد على أنها حروف!
المادة في حياتهم الفارغة هي كل شئ. غلفوا بها قلوبهم حتى صدئت منهم النفوس، وأفعموا بها أفواههم حتى تنتب منهم الأنفاس. تم جعلوها قياسا لكل قضية، وسببا لكل حكم، وأساسا لكل نقد، وغرضا من كل عهد؛ فإن أعطوا منها رضوا، وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون!
وقد تسول لهم النفس الغرور أن يلوثوا وجوه الصحف بما يكظ بطونهم من أخلاط الحقد على المصلحين والعاملين فيكشفوا عن سوءاتهم تم يدعوها تزكم الأنوف بالنتن الوبئ، وتؤذي الآذان بالصوت الكريه!
إن من أول وسائل الإصلاح للدين والدنيا أن يكسح هؤلاء من معاهد العلم ومقاعد التعليم كما تكسح الأوحال من الطريق. فإن الباني لا يبني وفي يده مسطرين وفي أيديهم معول. وان الغارس لا يغرس وفي يده مشتل وفي أيديهم منجل. ولولا أبو جهل وابن سلول وشيعتهما من عدو الله لما قال الرسول الصادق الصابر الشجاع وهو يلوذ بأحد الجدر: اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس!