في اليوم العاشر من ذي الحجة سنة ١٣٦٥ (الخامس من نوفمبر سنة ١٩٤٦) كنت من فرحي في عيدين: عيد الأضحى المبارك، وعيد مقابلتي لسماحة المفتي الأكبر!
كانت المقابلة في ساعة الأصيل، وكنت أقول بيني وبين نفسي:
(يا ليتني أستطيع أن أجلس إليه وحدي، أو ليت زملائي الطلاب الفلسطينيين الأزهريين - الذين قدمت معهم لزيارة سماحته - يدخلون مَوْحَد موحد، ليتيسر لي أن أنفرد معه فأفضي إليه بكل ما في قلبي، هذا القلب الذي لم ينطو لحظة إلا على حب العروبة والرغبة في الدفاع عن كل شبر من أراضيها، والحماسة في كره خصومها.
وأذنوا لنا بالمقابلة، فخفق قلبي - ونحن نَجوزُ الحديقة في طريقنا إلى قاعة الاستقبال - فأدركت أني سأقابل عظيما، أني ما عهدت قلبي يخفق لمقابلة إنسان، مثل ذلك الخفقان.
ولم يكن بين زملائي من هو أصغر مني سناً، فتركتهم يتقدمونني ويسلمون على سماحة المفتي ثم يجلس كل واحد منهم حيث ينتهي به المجلس. حتى إذا جاء دوري انحنيت محاولاً لثم اليد الطاهرة، فسحبها بلطف. ونظرت حولي فلم أجد إلا مقعداً خالياً عن يمين مقعد سماحته قد تهيب الجميع الجلوس عليه، فتهيبت مثلهم لولا أن المفتي أشار إليه بنفسه، قال بصوت يسيل رقة وعذوبة:
- (اجلس هنا. . . أهلاً وسهلاً بكن جميعاً).
ولا تسل عن سروري بهذه الجلسة المجاورة التي مكنتني من إطالة النظر إلى ذلك الرجل الربعة القامة، والمعتدل الهامة، الصبوح الوجه، المتلألئ الجبين، ذي العينين الزرقاوين البراقتين اللتين ما وقع بصري على أصفى منهما، ولا أصرح منهما، ولا أشد تعبيراً منهما، والأنف المستقيم، والشفتين المنفرجتين عن ابتسامة مشرقة، واللحية الكستنائية التي وخطها المشيب فأضفى عليها مهابة على مهابة، ثم زاده في نظري جمالاً - وما فيه إلا جميل - بلك العمة على رأسه كأنها تاج - وإنها لأكرم من التيجان - وهذه الجبة تكسو بدنه كأنها لباس الملوك - وإنها لأعز من لباسهم - فتمثل في كل ما فيه أصدق صورة للرجل العربي الفخور بزيه، المعتز به.