للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[القصص]

الجد

للأستاذ عبد المغنى علي حسين

من كان يرتاد أحد المتنزهات الكبيرة بالقاهرة كان يرى في ضحى أيام الصيف يتكرر يوماً بعد يوم وفي رتابة ودقة موعد، ويسترعي نظر من تستهويه نواحي الجلال والجمال والعاطفة.

كان يرى (سامي بك) ذلك الضابط القديم الذي يحتفظ في السبعين بقامته وسمته في الأربعين يعلوهما تاج من شيبة جليلة، شيخ طويل مهيب، وليس في بنيانه وقسمات وجهه غير التناسب الجميل، يقبل كل يوم في موعد لا يتغير، بمشيته التي وهنت قليلاً لكن لم يزايلها ثباتها وانتظامها العسكري، وعصاه الخفيفة بيمينه لا يتوكأ عليها بل لا يلمس بها الأرض إلا لماماً، ترافقه على الدوام حفيدة له، صبية في نحو العاشرة، فيقصدان تواً إلى مقصف المتنزه ويجلسان إلى نضد بركن منه، ويأخذ الشيخ يطالع صحيفته والصبية تتسلى بتقليب صفحات إحدى المجلات ومشاهدة المتنزهين والمتنزهات، واللاعبين على العشب الأخضر واللاعبات.

ولم يكن يماثل إعجاب الناظر بروعة منظر الشيخ وحسن سمته سوى إعجابه وعجبه من الصبية الصغيرة أيضاً. كانت ذات ملاحة وظرف وحسن، لكن محاسنها لا تبدو إلا لمن يرقبها عن كثب لانطوائها وراء هدوء وصمت ورزانة تكتر سن الصبية بكثير، وتكاد تضارع فيها جئها الكبير. . كانت تمشي بجانب جدها في خطو متزن وقامة معتدلة، ثوبها طويل محتشم وحقيبتها اللطيفة تتدلى من كتفها، ووجهها الصغير المستدير صامت جاد، ونظرتها إلى الأمام. . فإذا جلسا لم تكن تهز رجلاً أو تتلفت أو تبادئ جدها بحديث. فإذا طوى الجد الصحيفة نظر إلى حفيدته في فرط حنان وإشفاق، وقال لها شيئاً، لعله يسائلها إن كان ثمة ما ترديد، أو يريدها أن تطرح بعض احتشامها وتنزل إلى العشب لاهية مثل لداها، فتجيبه بهزة نفي من رأسها الصغير وابتسامة شكر على ثغرها الرقيق.

هذا ما كان يطالع منهما عين الناظر العابر، لكن عين الناظر لا تستطيع أن تقرأ ما وراء الصور العابرة من قصص الحياة. . إن سامي بك تزوج في صباه من سيدة ذات محتد

<<  <  ج:
ص:  >  >>