هناك نحو الشرق من صنعاء عاصمة اليمن، على بعد خمسة أيام فوق متون المطايا؛ تمتد منطقة واسعة الأطراف، مترامية الأكناف، عامرة بأسرار تاريخ، وفيرة بخبيئة ماض بعيد، يجد فيها عالم الآثار مادة خصبة ومجالاً واسعاً فسيحاً لاختباراته وأبحاثه
في تلك البقعة الساحرة المسحورة التي فاضت عليها أنفاس الرياح الغرائب فطمرت معالمها، وأخفت ما شخص منها، ونسجت عليها أثواباً رقيقة شفَّافة من الطمي الأملس، تَلبد في ذمة التاريخ وتحت أنقاض العصور خرائب سبأ، مدينة الملكة العظيمة بلقيس عروسة سليمان ابن داود. . .
هذه بقاع منسية في جزء مهم من بلاد العرب، لعبت أدواراً خطيرة في مجال التاريخ القديم؛ تدل الآثار الضئلية التي قذفتها هذه الأراضي الضنينة التي جاءت من قبيل الصدف بأن ما تحويه في أحشائها يفوق الوصف، ويثير التاريخ!
ومعلوماتنا عن هذه البلاد السبئية ضئيلة؛ فبالرغم من كثرة الرواد الذين اجتاحوا هذه البلاد فإن خطراتهم بين خرائبها كانت سريعة خاطفة، فلم يعرف عنها إلا أشياء مقتضبة مشوَّهة لا تقوم على إسناد علمي يركن إليه الباحث، وتطمئن له نفس المنقّب؛ وهذا عائد إلى طبيعة الأرض وجفوة سكانها وقساوتهم ضد الأجنبي. . . وما عرفنا أحداً تغلغل في صميم هذه البقاع سوى ثلاثة من الأوربيين أتاحت لهم الظروف الوصول إلى قلب مدينة سبأ فجمعوا كتابات كثيرة جداً منقوشة على الصخر الأصم!
هؤلاء الأشخاص هم أرنود (١٨٤٣) وهاليفي (١٨٦٠) ثم (١٨٨٨). وبعد هؤلاء الباحثين لم يتقدم أحد من الأوربيين مطلقاً. فبقيت أرض سبأ إلى هذه الساعة محتفظة بأسرارها الرهيبة الهائلة. . .
هناك في الناحية الغربية من مدينة بلقيس؛ بنى السبئيون في أحد الأودية العظيمة سداً عظيماً، متين البنيان، وطيد الأركان، مشمخر الأنف، تتجمع فيه أمواه السيول المنحدرة من أعالي الجبال فتسقي الأرض، وتحيي الضرْع؛ حتى غدت هذه البلاد مثلاً سائراً في خصوبة الأرض؛ وكرم التربة!