وإذا مضينا في اتخاذ المقياس السابق: وهو تمييز العبقرية بآثارها التي من شأنها أن تؤثرها في الناس سواء أظهرت هذه الآثار أملمتظهر فعلاً - لكي نميز بين عباقرة العقائد - لوجب أن نضع في الصف الأول عباقرة العقائد الدينية وهم الأنبياء، لأن آثارهم في المجتمع وصلاتهم به من الوجوه الستة التي فصلناها قبل أوضح وأعمق وأشيع مما هي عند غيرهم من عباقرة العقائد. وفوق ذلك فإن وضع امتيازهم يختلف عن وضع غيرهم من العباقرة:
١ - فالنبي حين يعلم الناس عقيدته الدينية، ويفجر في نفوسهم بواعث الإيمان بالروابط التي تربطهم بالكون وما وراءه، فتتفجر معها كل البواعث في بنية النفس الإنسانية - يبدو كأنه روح جبار تجسد لتخليص أرواح الناس من ضعف البشرية المطبق عليهم، ويظهرون هم بإيمانهم كأنهم مردة ولدوا ولادة جديدة، وهذا التغير الشامل لا تحققه إلا العقيدة الدينية.
٢ - والملكات الأزمة للدخول في العقيدة الدينية هي الملكات النفسية المفرطة في العادية، وليست كذلك الملكات اللازمة مثلاً لقبول العقائد الفنية أو الفلسفية أو الصوفية ونحوها، ومن ثم كان من شأن العقيدة الدينية أن تلقى من الرواج بين النفوس أكثر مما يلقى غيرها، وكانت العقائد الدينية موجهة إلى الكافة لا إلى طبقة ولا فئة خاصة، لأنها في مداخلها البسيطة إنما هي دعوة إلى تسليم وسلوك بسيطين، لا عويص فيهما على العقول، ولا مشقة فيهما على النفوس، وبخاصة إن كانت الدعوة إليها في بدء أمرها على يد عبقريها الأول الذي جاء بها، فهو يملك من أمرها ويملك من صياغتها في الصورة المناسبة للطبائع والقوى والأموال ما لا يملك القائمون بها بعده، كما أنه يفهم الطبائع والقوى والأموال خيراً مما يفهمها القائمون بها بعده. فهذه فروق ثلاثة بين حال المؤسس وحال التابعين ينبغي الالتفات إليها هنا. ولكن ليس معنى أن مداخلها بسيطة، وأنها دعوة إلى تسليم وسلوك بسيطين، وأنه لا عويص في فهمها ولا إحساس يثقل في حمل تبعاتها، وأنها موجهة إلى الكافة - أنها لا تصلح للممتازين، فإن من وراء مداخلها البسيطة آفاقاً سامية من الشعور والذوق والفكر لا يعيها إلا الممتازون، وفيها لهم شاغل ورضاً.