اجتاز الشرق القريب في الفترة الواقعة بين الحربين الكونيتين الأولى والثانية مرحلة حافلة بالأحداث، اتسعت بنمو الحركة الفكرية؛ ويصح أن تدعى فترة الوعي واليقظة.
امتازت هذه المرحلة بإثارة كثير من الموضوعات حمى فيها الوطيس، وتعددت فيها المعارك، ومنها معركة القديم والجديد في مختلف نواحي الحياة، من سياسية إلى اجتماعية واقتصادية، ثارت بين المجددين والمحافظين أينما وجدوا، وفي مقدمتها معركة اللغة والكتابة العربية واللهجات، إذ ظهرت دعوة ترمي إلى اصطناع هذه اللهجات الإقليمية المحرفة عن الفصحى في بعض أقطار الشرق القريب. وحاول المحاولون أن يثيروا حرباً عوانا على اللغة، ووضعوا في هذا الباب ما وضعوه من كتب ورسائل ومقالات.
يهول بعض المعنيين في هذا الشأن بعنف الصراع القائم بين الفصحى واللهجات المحلية، ويشيرون إلى قيام ضرب من تنازع البقاء بين الجانبين، ويضربون الأمثال من اللغة اللاتينية ولهجاتها، بل من اللغة العربية وأخواتها الساميات على اعتبار أنها لهجات تفرعت من أصل سامي بائد، ثم يسرفون في التكهنات والاحتمالات.
ظن فريق من هؤلاء الباحثين أنهم أول من طرق باب البحث عن اللهجات على هذا الشكل الحديث، وانه لم يحم حول هذا الموضوع أحد من قبل، مع أن غير واحد من أعلام الأدب واللغة وأئمة القراءات أشاروا إلى فساد اللسان، وإلى اضطراب اللهجات اللغوية المحكية، وشذوذها في عصورهم. ولهؤلاء اللغويين القدماء عناية فائقة بالبحث عن اللهجات، ومن هذا القبيل تلك الرسائل والكتب التي جردت فيما تلحن فيه العامة أو الخاصة. وكم من معركة أثيرت بين اللغويين في هذا الباب مرماها انتقاد اللهجات وإصلاح ما اعتراها من فساد، وهي كتب كثيرة، وجلها متداول معروف. ولما استفحل شأن اللهجات في العصور الأخيرة، وطغى على اللغة سيل جارف من الكلمات الدخيلة، وفطن المعنيون بذلك إلى الخطر الذي يتهدد العربية من الناحية، بادر اللغويون المحدثون إلى العناية بالبحث عن أصول الكلمات العامية وردها إلى الفصحى، وأوجدوا أوضاعاً لغوية، ومصطلحات عربية،