مما يبعث السرور إلى النفس أن نرى من الناس وفاءً للمصلحين واحتفاء بذكرى العاملين، ذلك بأن هذا الوفاء الذي هو أسنى خلال الإنسانية، إنما يدل ولا جرم، على أن العقول والأفكار، قد استعدت لقبول آراء هؤلاء المصلحين وتعاليمهم، وأن النفوس قد استعدت للأخذ بها واتباع ما تدعوا إليه. . .
وإن مما يغتبط له المرء حقاً أن لا تمر الذكرى التاسعة والثلاثون لوفاة الأستاذ الإمام محمد عبده هذا العام كما مرت من قبل في سكون ونسيان، بل رأينا الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية. قد هبت كلها للإشادة بها والإفاضة في بيان فضل صاحبها
ومما زاد في اغتباطنا أن سمعنا لأول مرة في حياتنا صوت الأزهر ينبعث في هذه الذكرى الكريمة بعد أن ظل صامتاً طوال أربعين عاماً، واضعاً أصابعه في آذانه، حتى لا يسمع له نصحاً ولا يتبع له رأياً، مما يجعلنا نستبشر بأن هذه البيئة التي تنكرت لمصلحها العظيم في حياته، وازورت عنه بعد وفاته، قد أخذت تدنو من تعاليمه لتدرسها وتنتفع بها، وأن من كان فيها من الشيوخ الجامدين والخرافيين، ومن على شاكلتهم في غيرها من الحشويين والمعوقين، أولئك الذين تخلفوا عن قافلة الحياة بأفكارهم السقيمة وآرائهم العقيمة، وكانوا عقبة في سبيل كل إصلاح قد قضى عليهم ولم يبق لهم ولا لآرائهم بين الناس أثر.
لم يجد الأستاذ الإمام في حياته من التنكر له والمكر به والإعراض عنه مثل ما وجد في الأزهر، ذلك بأنه ما كاد يظهر بما يريد من خير لهذا المعهد الكبير، حتى هب منه في وجهه فئتان تعارضانه وتصدان عن سبيله: الفقهاء الجامدون، والشيوخ الخرافيون وقد درسوا في رؤوسهم تعويذتين لتحفظانهم من (عين) الإصلاح
أولاهما: هذا أمر لم تجربه العادة!
والأخرى: الجمهور على غير ذلك!
أما الفقهاء؛ فإنهم قد أبوا إلا أن يظلوا على ما وجدوا عليه شيوخهم، فلا يدرسون إلا كتبهم، ولا يتبعون إلا أقوالهم، حتى لقد بلغ الأمر بأحد كبارهم أن يجأر في مجلس إدارة الأزهر