للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[من وراء المنظار]

سافر صديقي (عين) إلى الريف ليضحي بكبشه المنوفي الأملح هناك. ولصديقي الوفي (عين) ولع بالريف عجيب. فصباباه عرائس شعره، ومشاهده مسارح خياله، ومعاهده ملاعب هواه، ومزارعه صقال خاطره، ومطاعمه عافية بدنه.

لذلك تراه كلما افترض العودة إلى الريف في ساعة من النهار أو الليل

أسرع إلى القطار أو إلى السيارة دون أن يشاور أهله ويودع صحبه

ويرتب عمله!

دخلت صباح اليوم مكتبه الذي يكتب فيه (من وراء المنظار) فوجدت الكرسي خالياً وليس أمامه خبر، والمنظار متروكا وليس وراءه نظر! فقلت لنفسي: لم لا أجرب هذا المنظار الذي تنفذ منه (عين) الصديق إلى ما وراء الصدور والستور والحوادث؟ أما يجوز أن يكون سر فنِّه في هذا المنظار فأرى به ما يصح أن أصورِّه وأنشره؟

سألت عن ذلك نفسي ولم أنتظر ما تقول، فقد أخذت المنظار وتركت الدار ووضعته على أنفي وأنا امشي على طوار الشارع الذي عرفته وألفته، فإذا الناس غير الناس، والمدينة غير المدينة، والدنيا غير الدنيا!

كأنما هذا المنظار من صنع الله الذي أتقن كل شي! فإن فيه أسرار المناظير المعظِّمة والمقرِّبة والكاشفة؛ وفيه غير ذلك قوة التجريد فهو يرد كل شي إلى طبيعته، ويظهر كل شئ إلى طبيعته، ويظهر كل شخص على حقيقته

مشيت به في زحمة الطريق مشية الغريب الجاهل في البلد العجيب المجهول، تزخر نفسه بعواطف شتى من الغضب والعجب والدهش والإنكار والخوف، ثم لا يملك أن يسأل لأن لسانه معقود، ولا يستطيع أن يصبر لأن جَلده مفقود

رباه ما هذا الذي أرى؟ أهذا هو الصديق البر الذي خالصته الود وساهمته الوفاء وعاشرته نصف العمر ثم لا ألقاه إلا صافحني بالكف الناعمة ومازحني باللسان المعسول؟ ما باله قد تساقطت عنه لفائفه الوردية، وحالت عليه أصباغه العبقرية، فبدأ أمامي عارياً ضارياً كالأسد الجائع، تتقد عيناه بالشر، ويتحلب شدقاه بالشره، وتمتد يداه الباطشتان إلى قوتي الذي لا مساك للنفس إلا به؟ وفي شريعة الوحش لا تتصافح الكفان مادامت بينهما فريسة.

<<  <  ج:
ص:  >  >>