والآن عرضنا من مناهج البحث ما نخاله كافياً فيما يتعلق بدرس الحوادث التاريخية، بل سيكفي منه ذكر الأكثر ضرورة
إن تصور العلة التي تهيمن اليوم على درس الأشياء العلمية تهيمن كذلك على درس المسائل التاريخية، والمناهج التي تتعلق بهذا تتعلق أيضاً بذلك. فإن حادثاً اجتماعياً إنما يجب درسه كحادث طبيعي أو كيميائي مهما ذهب أمره، فهو خاضع لبعض مذاهب، أو قل إنه خاضع لسلسلة مرتبة من الضرورات المحتمة. فالإنسان يعمل والقوة السامية تقوده سواء دعوت هذه القوة الطبيعية أو العناية أو القدر أو الحظ. ونحن منذ الولادة حتى الموت تفيض علينا قوات من الخير والشر لا نستطيع لها قهراً ولا غلبة. وغايتنا الكبرى هي الوصول إلى معرفة بعض أحوال وأسباب من مظاهرها
وتاريخ الإنسانية نستطيع أن نعتبره سلسلة واسعة كل أجزائها متماسكة. قد تعود أجزاؤها الأولى إلى أبعد جذور في أرضنا. والحادث التاريخي مهما ذهب أمره هو دائماً نتيجة حلقة طويلة الأحداث الداخلية. فما الحاضر إلا لدة الماضي. والماضي يحمل الغد في أطوائه كجنين، وفي الحوادث الحاضرة يستطيع العقل الموهوب أن يتلو التعاقب اللانهائي للأشياء. ولكن مثل هذا العقل يبدو أنه لن يظهر أبداً. فبينا نعمل على معرفة مجموعة العاملين الذين ولدوا الحاضر ومعرفة قوة كل واحد منهم نرى من المحال إخضاع هؤلاء العاملين للتحليل. فعلم النجوم يعجز عن أن يعين بواسطة الحساب الهدف الذي يرمي إليه جسم يخضع لثلاثة أجسام فقط، فكيف والحالة هذه في مسألة تضم ملايين الأجسام؟
إن كل الشرائع الوهمية التي يخال أنها تؤخذ من دراسة التاريخ ما هي في الحقيقة إلا تثبيت امتحاني لبعض الأعمال. وبها يمكننا أن نقارنها مع الملحوظات الامتحانية التي يقوم بها أصحاب علم تقويم البلدان