لعل من أسوأ سيئات عصور الانتقال ظاهرة التمرد التي تغلب على الناشئين فيها، فقد كان الناس قبل أن يبتلوا بعصر الانتقال هذا يرجعون فيما يختلفون فيه إلى أصول مقررة تستند إلى ما يسلمون به جميعاً من دين، أو عرف مستمد من دين، أو إلى أدب عريق تحددت أحكامه وتبينت معاييره ورسخت أصوله على طوال القرون. فلم يكن صغير يخرج على كبير في تحديد ما ينبغي، ولم يكن ناشئ يتطاول على أستاذ فيما يعلم أنه ناشئ فيه وإنه حديث العهد به. فكان الصغير إذا خالف في سلوكه رأى الكبير يخالف وهو يعرف أنه مخطئ، ولم يكن ناشئ مبتدئ في الأدب أو غير مبتدئ يخطر بباله - إذا لم يقتنع برأي أستاذه أو من هو في منزلة أستاذه في اللغة أو في الأدب أو في الدين في مسألة بدا له فيها رأي خاص - أن يعيب أستاذه أو يثلبه أو يصغره أو يحاول أن يعرضه لسخرية الناس. وكان الكبار إذا اختلفوا يتحاكمون إلى ما أجمعوا على التسليم به من الأحكام والأصول. فلم يكن الخلاف في المقاييس ولكن في طريقة القياس؛ لم يكن في القواعد ولكن في التطبيق. فكانوا سرعان ما ينتهي خلافهم إلى اتفاق إن كانوا ممن يبتغون الحق للحق لا للشهوة، أما الذين تأخذهم العزة بالإثم فلا ينزلون على حكم الحق وإن وضح فأولئك في كل عصر هم مصدر الشقاق والفراق، سواء أكان العصر عصر استقرار في المعايير أم كان فيها عصر اضطراب يشبه الفوضى كعصرنا الذي نعيش فيه
كان الأمر كذلك وكان الناس في راحة من أجل ذلك. كان يكفي أن يحتج أحد المتناظرين لرأيه بآية كريمة أو حديث شريف أو رواية في اللغة ثابتة تشهد لأحد الرأيين حتى ينزل صاحب الرأي الآخر على رأي الأول من غير أن يجد في نفسه غضاضة، لأنه في قرارة نفسه يعرف انه نزل على حكم الآية أو الحديث أو الرواية الصادقة، وهذه عنده أحكام