إن الإنسان لولوع جداً بإظهار الحقائق على طريق المقارنة، والمقارنة قد تكون مقارنة فرد بفرد أو شعب بشعب. أما الأولى فقد تكاد تكون شائعة في كل عهد لأنها رأس كل نقد. والأوائل لم يغمروا مثلاً امرأ القيس بما غمروه من فيض عبقريته إلا بعد أن قرنوا شاعرية غيره إلى شاعريته. والإنسان مسوق يطبعه الموروث إلى مثل هذه المقارنة التي قد تكون غريزية في كل كائن يفكر ويشعر. أما المقارنة الثانية فهي حديثة النشأة، لأن النقد لم يكن ليخطر في باله أن يقيم الأوزان بين أدباء أمتين مختلفتين ثقافة واتجاهاً وشعوراً. ومن كان يفكر في المقارنة بين شكسبير وراسين، ودانتي وميلتون، وبين ميزات الأدب الألماني والأدب الفرنسي؟ وكل واحد منهم يمت بوسائله إلى أمة مستقلة في تطورها وبيئتها. ولكن الأدب - كما يبدو - له سلطان قاهر، يرمي بالحواجز التي تفصل بين الحدود الصناعية ويقتحم في عوالم الفكر والخيال دون أن يصد اقتحامه شيء لأنه الأدب. . . وهكذا نشأت الصلات الأدبية بين الأمم إلى ما شاء ربك!. . وربطت بين المفكرين ربطا لا يقوم على مصالح سياسية أو مطامع مادية، وإنما يقوم على رفع منارة الفكر وإعلاء كلمة الفكر. فما أطهر هذه الرابطة لو أنها تخرج من هذا العالم غير المحدود إلى العالم الذي سودته الحدود! فتجد الأديب الفرنسي يحلل الأديب الألماني دون أن تطغى على قلبه سورة الحقد. وتجد الأديب الألماني يكتب عن الأديب الفرنسي من غير أن تغلب عليه موجدة. ذلك أن عالم الفكر سما بهما فوق عالمهما المحدود الذي غمرته الحزازات وتقطعت