إنه فيما يبدو حالة غامضة كالحياة وكالموت، تستطيع أن تعرف الشيء الكثير عنها إذا أنت نظرت إليها من الخارج، أما الباطن، أما الجوهر، فسر مغلق، وصاحبنا يعرف الآن أنه نزل ضيفاً بعض الوقت بالحانكه، ويذكر - الآن أيضاً - ماضي حياته كما يذكره العقلاء جميعاً، وكما يعرف حاضره، أما تلك الفترة القصيرة - قصيرة كانت والحمد لله - فيقف وعيه حيال ذكرياتها ذاهلاً حائراً لا يدري من أمرها شيئاً تطمئن إليه النفس. كانت رحلة إلى عالم أثيري عجيب، مليء بالضباب، تتخايل لعينيه منه وجوه لا تتضح ملامحها، كلما حاول أن يسلط عليها بصيصاً من نور الذاكرة ولت هاربة فابتلعتها الظلمة. وتجيء أذنيه منه أحياناً ما يشبه الهمهمة، ما إن يرهف السمع ليميز مواقعها حتى تفر متراجعة تاركة صمتاً وحيرة. ضاعت تلك الفترة السحرية بما حفلت من لذة وألم. حتى الذين عاصروا عهدها العجيب قد أسدلوا عليها ستاراً كثيفاً من الصمت والتجاهل لحكمة لا تخفي. فاندثرت دون أن يتاح لها مؤرخ أمين يحدث بأعاجيبها. ترى كيف حدثت؟! متى وقعت؟! كيف أدرك الناس أن هذا العقل غدا شيئاً غير العقل؟؟ وأن صاحبه أسمى فرداً شاذاً يجب عزله بعيداُ عن الناس كأنه الحيوان المفترس؟؟
كان إنساناً هادئاً أخص ما يوصف به الهدوء المطلق. ولعل ذلك ما حبب إليه الجمود والكسل. وزهده في الناس والنشاط. ولذلك عدل عن مرحلة التعلم في وقت باكر. وأبى أن يعمل عملاً مكتفياً بدخل لا بأس به. وكانت لذته الكبرى أن يطمئن إلى مجلس منعزل من طوار القهوة، فيشتبك راحتيه على ركبتيه، ويلبث ساعات متتابعات جامداً صامتاً، يشاهد الرائحين والغادين بطرف ناعس وجفنين ثقيلين. لا يمل ولا يتعب ولا يجزع. فعلى كرسيه من الطور كانت حياته ولذته. ولم يكن وراء ذلك المظهر البليد الساكن حرارة أو حركة في قرارة النفس أو الخيال، كان هدوءه شامل الظاهر والباطن، الجسم والعقل، الحواس والخيال. كان تمثالاً من لحم ودم يلوح كأنما يشاهد الناس وهو بمعزل عن الحياة جميعاً.