قرأت تلستوي قبل أن أقرأ نقد ماكس نوردو لآرائه. وكنت أشك فيما شك الناقد الألماني، ولكني عندما قرأت نقده لتلستوي لم يقنعني تعليله، أو على الأقل رأيت أنه لم يتتبع كل احتمال يمكن أن تصير إليه النفس الحائرة في بحث معضلات الحياة، ولم يقف كل موقف من الجائز أن تقفه في أثناء بحثها؛ فكان تعليله لما ينقد من الآراء بالشذوذ الجثماني في صاحب الرأي، ولم يدر أن كل إنسان شاذ وأن كل مفكر مصحوب بشيء من الشذوذ الجثماني، وأن الشذوذ الجثماني قد يكون في غير المفكر أكثر منه المفكر، وأن الإنسان حيوان شاذ. وأن الرأي الذي ينقده قد يكون قد دخل عليه الخطأ بسبب رفض صاحبه لخطأ آخر في أثناء بحثه الحياة واختيار مسالك الرأي فيها. ولو أن ماكس نوردو قد فسر سبب رفض تلستوي لنقيض ما رأى من الآراء لكان قد وصف رحلة نفس تلستوي في عالم الإحساس والوجدان، ولكان قد وصف رحلة فكره في عالم الأفكار، ولكان قد وصف من تلك المسالك ما هو كالتيه ذي الطرق المتشعبة وما يحسبه ماكس نوردو طريقا معبدا بالخرسان والقطران والإسفلت
خذ مثلا رأي تلستوي في الامتناع عن الإجرام حتى قتل المجرم للدفاع عن النفس أو عن طفل بريء، فهو يقول لك انصح المجرم وعظه والتجئ إلى الجانب الخير من نفسه وحاول أن تمنعه من ارتكاب جريمة القتل، ولكن أحذر أن يكون منعك إياه عن الجريمة بأن تأتي أنت جريمة كأن تقتله؛ فإذا رأيت مجرماً يريد أن يقتل طفلا فضع نفسك بينه وبين الطفل وعظه، ولكن لا تقتله لأنه يريد أن يقتلك أو أن يقتل إنساناً آخر حتى ولو كنت قادراً على قتله
يأخذ ماكس نوردو هذا الرأي فيفنده ويسخر به ويهزأ منه. وله أن يفنده وأن يظهر مواطن الضعف فيه، وله أن يسخر منه ما شاء أن يسخر، وله أن يقول أن هذا رأي يؤدي إلى موت الأبرار وتحكم الأشرار. إذا أخذ به بعض الناس ولن يأخذ به كل الناس إلا إذا انمحى الشر من النفس الإنسانية فلا يكون إذن للرأي معنى ولا ضرورة، وإذا مات الأبرار الأخيار بسبب أخذهم بهذا الرأي وتحكم الأشرار رجعت الحالة إلى ما كانت عليه قبل