قال صاحب سرّ (م) باشا رحمة الله: وجاءني يوما اثنان من شيوخ الدين من ذوى هيئاتهم وأصحاب المنزلة فيهم، كلاهما هامَةٌ وقامة، وجُبَّة وعمامة، ودرجة من الإمامة؛ ولهما نسيم ينفُحُ عِطْرا حسبتُه من ترويح أجنحة الملائكة، وعليهما من الوقار كظل الشجرة الخضراء في لهب الشمس تفيء به يمنةً ويَسْرةً. فتوجَّهتُ إليهما بنظري، وأقبلتُ عليهما بنفسي، ووضعت حواسي كلها في خدمتهما؛ وقلت هؤلاء هم رجالُ القانون الذي مادتُه الأولى القلب
ما أسخف الحياةَ لولا أنها تدل على شرفها وقدرها ببعض الأحياء الذين نراهم في عالم التراب كأن مادتهم من السُّحُب، فيها لغيرهم الظل والماء والنسيم، وفيها لأنفسهم الطهارة والعلوُّ والجمال. يثبتون للضعفاء أن غير الممكن ممكن بالفعل، إذ لا يرى الناسُ في تركيب طباعهم إلا الإخلاصَ وإن كان حرماً، وإلا المروءة وإن كانت مشقة، وإلا محبة الإنسانية وإن كانت ألماً، وإلا الجِد وإن كان عناء، وإلا القناعة وإن كانت فقراً
هؤلاء قوم يؤلَّفون بيد القدرة، فهم كالكتب قد انطوت على حقائقها وخُتمت كما وضعتْ لا تستطيع أن تخرج للناس من حقيقةٍ نصفَ حقيقة ولا شبه حقيقة ولا تزويراً على حقيقة
وما أعجبَ أمرَ هذه الحياة الإنسانية القائمة على النواميس الاقتصادية! فالسماءُ نفسها تحتاج فيها إلى سماسرة لعرض الجنة على الناس بالثمن الذي يملكه كل إنسان وهو العملُ الطيب
قال: ونظرت إلى الشيخين على اعتبار أنهما من بقية النبوَّة العاملة فيها شريعةُ نفسها، تلك الشريعة التي لا تتغير ولا تتبدل كيلا يتغير الناس ولا يتبدلوا. ثم سألتهما عن حاجتهما فإذا أحدهما قد عمل أبياتا من الشعر جاء يمدح بها الباشا ليزدلفَ إليه؛ فقلت في نفسي: ما أشبهَ خَجلَ الجبال بألوان صخرها! هذا عالِمُ دنيا يحدها من الشرق الرغيفُ، ومن الغرب الدينار، ومن الشمال الجاه، ومن الجنوب الشيطان
ثم نشر ورقةً في يده وأخذ يسرد علي القصيدة، وهي على رَويّ الهاء تنتهي أبياتها ها. ها. ها. فكان يقرؤها شعرا أو كما يسميه هو شعرا، وكنت أسمعها أنا قهقهة من الشيطان الذي