إن الذين يحملون العلم إلى الناس بالتأليف أو النشر أو الترجمة أو المجلات، إنما يحملون إليهم من نور الله ليستضيئوا به وليزدادوا نوراً. وحملة العلم سواء كان أدباً أو علوماً طبية، أو غيرها، وسواء كان أصحاب مجلات يتخذونها ندوة للفكر وأصحابه إنما يفترضون على أنفسهم رياضة علمية طويلة شاقة قبل أن يبلغوا مرتبة العلماء. وفي هذه الرياضة العلمية يشترط الإخلاص الذي هو جماع الفضائل وطريق الراغب السالك طريق العلم. وكم من مشتغل بالعلم يمضي ويطويه الزمان الغشوم في غير رحمة بجهوده الطويلة وآماله العريضة؛ فإذا انزل الله نوره على عبيده فتح له من أبواب العلم ونشره ما يرفع له ذكراً.
ومن الذين فتح الله عليهم وهداهم في التاريخ إلى جوانب طريقة فجعلهم مرجعاً للأجيال التي تلتهم والتي تليهم المؤرخ المصري تقي الدين المقريزي صاحب كتاب اتعاظ الحنفا الذي نشره الدكتور جمال الدين الشيال. فقد امتاز المقريزي بنظرات طريفة وملكات مواتية، وجلد على العمل وتوفيق رباني عجيب فيما ألف. وترك من بعده أخباراً تاريخية طويلة تقع في مجلدات عديدة ضخمة، بعضها معروف منشور وبعضها مخطوط ينتظر النشر. وقد عنى بنشر كتب المقريزي جماعة كبيرة من أجلة المؤرخين منهم الأستاذ فيت مدير دار الآثار العربية الملكية المصرية الآن، ومنهم الدكتور زيادة أستاذ التاريخ المصري بجامعة فؤاد، ومنهم ناشر كتاب ألفاظ الحنفا الدكتور الشيال، الذي نتحدث عنه اليوم.
وليس هذا أول كتاب ينشره الدكتور الشيال للمقريزي، فقد نشر له من قبل كتابين قيمين، الأول كتاب كشف الغمة الجامع لأخبار الأزمات الاقتصادية، وهو على حجمه جليل القدر عظيم النفع، والثاني: نحل عبر النحل. وهو كتاب قيم بثروته اللغوية الضخمة، كنا نود لو لم يهاجر الدكتور أبو شادي إلى أمريكا حتى يعرف الجمهور ويعرف أمثالنا ممن لا يعرفون عن النحل إلا القليل قيمة هذا الكتاب. أما من الناحية التاريخية، فذلك الكتاب يحوي أخباراً تاريخية قليلة. ثم هذا الكتاب الثالث الذي نعرض له اليوم، وهو كتاب اتعاظ