أصبحت القرية الصغيرة غارقة في ضباب أمْشير البارد الأهوج كأنها قِطَع السحاب المركوم جثمت من ثقلها على الأرض. فالجو على قول (هوجو) كستار الغيب المسدول، والنسيم على قول (ابن المعتز) كذيل الغلالة المبلول، ووجه السماء كوجه الصحراء في يوم الدجن لا ترى فيه إلا تلولاً من الغمام الجون وسهولاً من السحاب الِهَفِّ. وكانت جدران المسجد تعج بالتكبير والتهليل، وأفنية الدور تنعم بالعناق والتقبيل، والطرقات من البيوت إلى الزاوية، ومن الزاوية إلى المقبرة، تزدان بالشباب القروي القوي العامل، وهو يطفر من مرح الصبي، ويخطر في زينة العيد، فيكسب الطبيعة العابسة المقرورة بشراً من طلاقة وجهه، وقيساً من حرارة قلبه
أخذت (المناظر) والمصاطب زخرفَها بالقوم بعد أن أقاموا الصلاة لله، وأدّوا الزيارة للموتى، وقدموا التهنئة للأهل، وانفضوا ثقالاً عن سماط العيد، ودارت عليهم أكواب القرفة وسكائر الطَّباق، وتشققت بينهم مقطَّات الحديث، فترامت إلى عيد الملة بحج البيت، وعيد الأمة بمولد الفاروق، وعيد الأسرة بيوم الأضحى. وكان اجتماع هذه الأعياد السنوية الثلاثة في يوم العيد الأسبوعي من مصادفات الدهر النادرة، وموافقات القدّر البعيدة، فتألقت في وجوههم أضواء مختلفة من السرور، وتدفقت في قلوبهم أحاسيس شتى من اللذة؛ منها المنبثق عن مشرق الإيمان بالله، ومنها الصادر عن منبع الإخلاص للمليك، ومنها المنبعث عن فيض النفس الراضية تفتحت في حرارة الحب كما تتفتح الأكمام في دفء الربيع
من الصعب أن تقيد الأحاديث المرسلة إذا جرت بين قوم لا يؤمنون بقواعد الجدل، ولا يحفلون بأمانة التاريخ، ولا يرون الحق للمتكلم أن يتم كلامه أو يشرح رأيه. وحديث الناس في القرية كشقشقة العصافير في الشجرة، تسمع كل عصفور يغرد، ولا ترى عصفوراً واحداً يسمع!
- كل عام وأنتم بخير. واللقاء في العام المقبل إن شاء الله على عرفات!
بهذه التحية وهذه الأمنية أبتدأ الحديث؛ وكأنما كان لفظ عرفات سبباً من الجذب الروحي حوَّل عواطف القوم وأمانيهم إلى مكة! فالذين حجوا أخذوا يذكرون وهم في غمرة الشوق