ونشوة الذكرى، تجلى الألوهية في مهابط الوحي، وإشراق النبوة في مطالع الرسالة، ويروون عن كل منسك حديثاً، ويقصون عن كل موقف حادثة. والذين لم يحجوا يصغون إلى صرف الحديث وهم من فعله الساحر في هيام غالب وطرب نزوع. ثم رجع الحديث مشرقَ الحواشي معطر الأطراف من الكعبة إلى عابدين، فأفاضوا في صلاح الملك الشاب وبره، إفاضة الخيال الشاعر في عدل عمر وفضل الرشيد. فهذا يقول إن جلالته يزور القرى متنكراً ليرى بنفسه منابت الشر ومواطن الفقر، فإذا كتب الله النعمة لبيت من البيوت عطفه إليه فدخله دخول الرحمة، وحل به حلول السعادة. ثم يروي الأعاجيب في هذا الباب مما تناقلته الأَفواه في الأسواق ورددته الأَلسنة في المجالس. وهذا يذكر أن الشيخ فلاناً رأى جلالته في المنام والنبي يقبله قبلة الرضى، ويقلده سيف الخلافة، ويِعَده نصر الله ما دام على النهج الواضح والعمِل الصالح والوحدة الجامعة. وذلك يقرر أن غضب الملك الصالح من غضب الله، إذا صُب على الباغي لا تعصمه منه قوة، ولا تدفعه عنه كثرة. لأن غضبه فوق الهوى والطمع، فلا يكون إلا للعدل في جوهره، وللشعب في صميم حقه
ثم انتقل الحديث من غضب الملك إلى حل مجلس النواب، فغاضت البشاشة من الوجوه وقالوا بلهجة الآسف الحزين: عدنا إلى الحرب الضروس، تفتك أسلحتها الأثيمة بالأموال والأنفس والأخلاق والقرابة. فالانتخاب بمآثمه ومغارمه هو المظهر الذي نحسه وتعرفه من مظاهر الدستور. وفترة الانتخاب هي الفرصة التي نرى فيها النائب طول الدورة البرلمانية. ومعركة الانتخاب بين الحكومة والأحزاب، وبين المرشحين والطلاب، هي التي تحمل أولياء الحكومة وأغنياء الأمة على أن يذكروا القرية، ويزوروا الفلاح، ويعطفوا على بؤس الأجير، ويمسحوا على رأس العامل، ويعدونا المواعيد، ويمنونا المنى، ويصوروا لنا البرلمان في صورة المسيح المنتظر؛ فلا ظلم وهو منعقد، ولا بؤس وهو قائم! فنقطع في رضاهم القرابة، وتنقض في سبيلهم الجوار، ونتحمل في نجاحهم العنت؛ حتى إذا فاز النائب، والتأم المجلس، وحكم الدستور، انصرف البرلمان إلى الأحزاب، واشتغلت الحكومة بالموظفين، واهتم النائب بنفسه! أما القرية والفلاح، وأما الدائرة والناخب، فمرآهم مقتحمَ العين، وشكواهم دْبرَ الأذن
ذلك بعض حديث القوم. وهو على سذاجته أو قل على تفاهته أخف على القلب وأندى على