تسألينني يا صديقتي عن كآبة (هاجر) ووجومها، وتتساءلين ملحة عن تجافيها وإيثارها العزلة والانفراد. إنك تريدينني على أن أفضي إليك بخبرها، وأصرح بما أعلمه عنها؛ ولاشك أن طلبك هذا يثير في نفسي ذكريات الطفولة ويحملني على أن أنحدر إلى أغوار الماضي، حين كنت أعرف هاجر في المدرسة تلميذة في صف الشهادة، وكم كان يشتد فرحي حين تدخل هذه الفتاة بيتنا في البكور لتأخذني معها، فإن عمتي أوصتها بمرافقتي إلى المدرسة، وكانت رحمها الله صديقة حميمة لأسرة هاجر
كانت تدق باب بيتنا دقات مستعجلة، فأبادر إلى صداري الاسود، وأعلق إلى جانبي محفظة كتبي بنجاد قصير، فإذا أسرعت هاجر في سيرها عدوت خلفها، فأتعثر بمحفظة كتبي التي تتدلى على جنبي أو على ظهري، وكنت لا أقف لاصلاحها حتى لا تتأخر هاجر عن ميعاد المدرسة فتحرمني مرافقتها في الطريق
وكان يعظم سروري حين تغيب معلمتنا العجوز الشمطاء ذات النظارة التي تربطها بالخيط إلى أذنيها وتحدرها إلى أرنبة أنفها فتطالعنا بنظرها المخيف من فوقها، كنت أفرح وأمرح حين تغيب هذه المعلمة الغاشمة فترسل إلينا المديرة (هاجر) كبرى تلميذات المدرسة لتحل محل المعلمة الغائبة، وتعلمنا الدرس فأزهو يومئذ وألهو، وألمس بأناملي رؤوس رفيقاتي اللاتي أمامي فيتلفتن وراءهن فإذا أنا صنم لا يتحرك
هذه صورة أولى لهاجر ما تزال في ذاكرتي جلية بينة؛ إنها كانت غضة الأهاب، أنيقة الثياب، ذات وجه أسمر مجدور، وشعر جعد أسود، قسمته ضفيرتين كثيفتين تنوسان على كتفها؛ وكانت صَناع اليد تغزل من الصوف أردية شتوية لأختيها سعاد ومليحة، وقد كان أبوها قاسياً جامداً ندم على تعليمها بعد أن حازت الشهادة، لكيلا يفتح العلم بزعمه قلبها وعينها، فحلف ألا يعلم أختيها
ومرت الأيام فإذا مليحة وسعاد فتاتان ناهدان، تلوح عليهما ملامح الجمال، وتبسم لهما الحياة والشباب، فراحتا تحلمان بالزواج، وقد خطرت للوالدين هذه الفكرة فتمنيا تحقيقها قريباً، وكانا يرتاحان لكل من يفاتحهما في خطبة الفتاتين؛ أما هاجر فكانت تضطرب