رجعت اليوم مبكراً إلى غرفتي المتواضعة في الضاحية النائية، في موكب من الوحدة والصفاء والانطلاق، فلم يعد يحلو لي أن أطوف في أرجاء المدينة، أو أذرع شوارعها العابسة بعد أن لفّتها الظلمة، وغيض منها النور، وكرهت نفسي هذا الرداء الأسود ذا النجوم الزرقاء الكابية الذي يضفونه على جنباتها الزاهية، فلم أجد إلا مصباحي وزاويتي. . . أعوذ بهما من شر الظلام الحالك.
جلست إلى جوار النافذة أرقب النهار المدبر. لقد تجهمت السماء، وأخذت تودع ألقها الصافي، وانتشرت في أطرافها البراقع القاتمة كأنها نذر الليل الزاحف. . . ولم يبق من الشمس إلا تلك الشعاعات الجريئة القوية التي أبت الهزيمة، وكرهت الفرار، فوهبت دمها القاني لهذا الطرف البعيد من الأفق كآخر ما تملك من فداء وتضحية!!
لشد ما يأسرني الغروب. .! إني لأجد له في نفسي أجمل الوقع. أترى كان ذلك لأنه يذكرني آمالي الغاربة التي بددتها الريح وابتلعها اليأس؟
- ٢ -
كان كل من في الضاحية يتشح بالسكون، ويغرق في الصمت، ويدعو إلى التأمل. . . هذه الأرض الحلوة الطيبة تضم ذراريها التي تفتحت عنها من الخضرة الزاهية، وتنام معها على هدهدة المساء؛ وهذا النخيل القائم، يرتكز إلى نفسه، كأنما ملَ هذا الانتصاب؛ والشارع الطويل الممتد، كأنما كان طريقاً في صحراء لا يقطعه إنسان، ولا تجوزه مركبة، ولا تخترقه سيارة؛ وهذه الخراف الصغيرة في أرض الجارة العجوز قد اطمأنت إلى حظيرتها الناعمة. . . لم يبق أحد أو شيء. . . إلا أنا. . . أنا وهذه الساعة التي لا تني تتحدث وتتحدث.