للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

واستغرقت في هذا التأمل، وأصغيت إلى هذا الحديث، وأحسست له معنى جديداً. لقد كنت أستمع إليه في الصباح وعند الظهيرة وفي المساء، فلم يكن ليحظى بشيء من انتباهي إليه وإصغائي له، ولكنه يلقي إلي الآن معنى رهيباً أجد له في نفسي ألواناً من الصدى، وأنواعاً من التأثير، ثم هو يقترن إلى هذه الشعاعات الأخيرة الذاهبة في الفضاء فيكون معها شيئاً رائعاً ينفذ إلى أعماقي، ويستثير فيها الذكريات الجاثمة التي احتضنها الألم وغشاها الحزن.

أيظل الإنسان رهن هذه اللفتات النفسية التي تصرفه عن دنياه، وتباعد بينه وبين أجوائه، وتقذف به في عوالم مواجة، وتطيح به هنا وهناك ألعوبة في يدها. يذكر كل شيء وينسى كل شيء، ثم لا يخرج من هذا الذكر والنسيان بغير الابتسامة الفاترة أو النظرة القلقة أو الأمل المريض.

وتثاءب الكون، فسرت في جسم الأرض نسمة هادئة اهتز معها العشب الأخضر، وانثنت لها أغصان النخيل ورقص قرص الشمس المضطرب في كبد الأفق وهو يغوص في بحر اللانهاية.

- ٤ -

في هذه الساعة كانت تتمثل آخر معارك النور والظلمة على مشهد الكون. لقد ظلت هذه المعارك أياماً كثيرة ما أطولها! لقد امتدت مع العام الراحل كله، تسجل غدر الزمان وغلبة الشر وتظهر هذا الإنسان المتفائل على مكاره الحياة ومصاعب الدهر، ولكنه يأبى إلا أن يسرف في التفاؤل، ويُغرق في الضحك، ويرى الحياة بعيني طفل غرير.

وأصغيت من جديد إلى حديث الساعة، كما أصغي لوحي الحنين حين يهيج بي الشوق، وعجبت لنفسي كيف تأخذ على هذه التمتمات الخافتة كل مشاعري وانتباهي، أكان ذلك لأنها نشرت لعيني حديث الماضي، وطوفت بي في ثنايا العام، ووقفت بي عند هذه اللحظات من سنة خلت، حين كنت أرقب مطلع الشمس من ضمير الأفق ومنبت البذور في مغرس الأمل، وحياة النعيم في دنيا الشقاء؟ أم كان ذلك لأنها تريدني أن أعب من هذا النور المرتجف قبل أن يخنقه الظلام، وأتزود بهذه الحرارة قبل أن يودي بها العدم، وأشهد ساعة الوداع قبل أن يطغي الليل؟!

<<  <  ج:
ص:  >  >>