ليست هذه المقالة موازنة بين شاعرين، وإنما هي صلة بين قصيدتين لتقارب موضوعهما، وأعني قصيدة رثاء مارك أنطونيوس ليوليوس قيصر، وحث الجمهور على الأخذ بثأره، وقصيدة ابن الرومي في رثاء أهل البصرة عندما دخلها صاحب الزنج وفتك بأهلها وسبى نساءهم ومثل بهم أشنع تمثيل، وفي هذه القصيدة يحث ابن الرومي جمهور المسلمين عامة وأصحاب الشأن في الدولة العباسية تعريضاً على الأخذ بثأر أهل البصرة والنفير لقتال صاحب الزنج، وتقاربت القصيدتان في نظري أيضاً لمهارة ما أرى فيهما من الأسلوب الخطابي والقدرة على السيطرة على الجماهير بمختلف الأساليب الخطابية، فينتقل القائل فيهما من باعث للشعور إلى باعث، ومن عاطفة إلى عاطفة، ومن حيلة في إثارة النفوس إلى حيلة أخرى، ومن حجة إلى حجة، ومن ترغيب إلى إرهاب، ومن حنان إلى استفظاع، ومن رقة الذكرى الماضية إلى هول الكارثة، وتقرأ القصيدة منهما فتحس كأنها قطعة موسيقية توقع على مختلف الأوتار والآلات والأصوات لتعبر عن مختلف الأحاسيس، وتمتاز قصيدة شكسبير في أنها أبرع ما قرأت في شعر الغربيين من هذا النوع من التأثير الخطابي، كما تمتاز قصيدة ابن الرومي في أنها أروع ما في اللغة العربية من هذا التأثير الخطابي وأكثره تنويعاً لأساليب التأثير، ولا يقتصر تأثير القصيدة على كثرة وسائل إثارة النفس كما ذكرت، ولكن الشاعر فيها يستخدم تكرار بعض الأساليب والعبارات تكراراً يراد به زيادة التأثير الخطابي، والقصيدة لا تمتاز في ألفاظ أو عبارات منمقة فخمة، ولكنها تشعر القارئ كأنها قيلت ارتجالا أو أن إحساس الشاعر كان أسرع من أن يدع له مجالاً للأغراب في اللفظ والتنميق الصناعي، ففخامتها فخامة الشعور المتدفق، وعندي أن القصيدة خطبة أكثر منها قصيدة تقرأ في دعة وسكون، فيكون أثرها أتم وأعم إذا تخيل القارئ كارثة البصرة وما حل بها، وشارك الشاعر في شعوره وفي رغبته في إثارة أهل بغداد. ثم إذا هو قالها على أسلوب الخطباء متتبعاً اختلاف أساليب الشاعر في إثارة النفس مغيراً من صوته ولهجته في إلقائها حسب تغير تلك الأساليب، فإنه يجد فيها روعة لا مثيل لها في نوعها في اللغة العربية