للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[البحر. . .]

(البحر لا ينام وفي يقظة البحر تعزيه لروح لا تنام)

(جبران)

للدكتور حسن عثمان

مدرس التاريخ الحديث بكلية الآداب

ضاقت نفس الشاعر بالأرض اليابسة التي تزدحم بالمدن، وتعج بالحركة، وتضيق بالتقاليد، وترهق بالأوضاع والمظاهر، فانطلق إلى الماء الفسيح، إلى البحر الطليق، يلتمس عوناً وملاذاً. وأقترب منه رويداً رويداً وهو يشخص ببصره إلى زرقته من بعيد، وصوت أمواجه المتلاطمة يعلوها الزبد يضرب في أذنيه، ورائحة البحر الملحة تملأ صدره، ورياحه تتخلل غصون الشجر، فتهتز وتتمايل، وتخرج منها أصوات تجاوب أصداء البحر. وأخذ الشاعر يطيل السير وحيداً على شاطئه دون أن تسمع صوت أقدامه، وهو ينظر مطرقاً إلى هذه الأمواج تصطفق ثم تنساب على الشاطئ. ويتأمل ويفكر ويحلم وينعم الطرف فيما هو قريب وفيما هو بعيد، إلى أن يضيع نظره فيما وراء الأفق، في رهبة وسكون

ثم يقطع تفكيره وسكونه أصوات حوله فيتلفت، فإذا به يرى أنماطاً من زبانية البشر، من عبيد الأرض، يهرعون إلى البحر لكي يطفئوا نيرانهم، ويطهروا نفوسهم من الآثام والخطايا. ويلمح الشاعر في ناحية قصية نفوساً هالعة وقلوباً دامية تصرخ من أعماقها في الظلام. . . فيسارع إليها ويدرك شكاتها لأول نظرة. . . فتثير في نفسه كل هذه الرؤى كوامن الشجن، وتهتز مشاعره، وتنهمر دموعه الملحة الساجيات غزيرة مختلطة بماء البحر المالح. ويحس البحر الواسع الرحيب هذه النيران، ويلمس تلك الخطايا والأشجان، فيقبلها ولا يلفظها. ويطهر الآثام، ويأسو الجراح

وترك الشاعر مكانه واعتلى ظهر سفين مطوفاً إزاء الشاطئ فشاهد صور اليابسة وألوانها. فهذه رمال وكثبان صفراء، تعلوا من بينها باسقات النخيل، وتنحسر عنها مياه البحر الزرقاء؛ وتلك جبال شاهقات تكللها الخضرة، وأخرى صخور جرداء شامخات توازن

<<  <  ج:
ص:  >  >>