للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[نظرات في أدب المتأخرين]

للأستاذ عباس حسن خضر

الأدب والحرفة:

منذ احتاج الأديب إلى استكمال عدته من الدراسة والثقافة اضطر إلى استدبار وجوه المكاسب، ونحي عنه الصوارف، وراح يمتص رحيق الآداب ليخرجه للناس أدباً مصفى. واتخذ كثير من الأدباء بعض آدابهم بضاعة نافقة في سوق المدائح، فطافوا بها على القصور، وانتجعوا الغنى؛ وقد جعل ابن الرومي مكافأة الأديب حقا لازماً إذ قال:

إن امرأ رفض المكاسب واغتدى ... يتعلم الآداب حتى أحكما

فكسا وحلى كل أروع ماجد ... من حر ما حاك القريض ونظمَّا

ثقةً برعى الأكرمين حقوقه ... لأحقُّ ملتمس بألا يحرما

فاجتمع لأولئك المال وإحكام الآداب، على أننا لم نعد من عزف عن ذلك المورد، وعكف على منهل الأدب، ينهل منه ويعل، ويفيض على خاطره، فيرسله غزلاً وتشبيباً أو حكمة وفلسفة.

وكثيرا ما حاق البلاء بالمشتغلين بالأدب لما شغلهم عن تدبير أمرهم ودفع ما نزل بهم، حتى عدت (حرفة الأدب) مجلبة للبؤسى وشؤماً على من أدركته، قال يعقوب الخزيمي:

ما ازددت في أدبي حرفاً أسر به ... إلا تزيدت حرفاً تحته شوم

وقرنها شاعر آخر بإجادة الخط، فشكا من اصطلاحهما عليه:

لما أجدت حروف الخط حرفني ... عن كل حظ وجاءت حرفة الأدب

أقوت منازل مالي حينُ وطِّنها ... مخيِّما سفطٌ الأقلام والكتب

ولقد وصل ما جرته حرفة الأدب إلى قصر الخليفة الشاعر ابن المعتز حين قتله المقتدر، وزعم أنه مات حتف أنفه، فقال علي بن محمد ابن بسام:

لله درك من ميْت بمضيعة ... ناهيك في العلم والآداب والحسب

ما فيه لوٌّ ولا ليتٌ فينقصه ... وإنما أدركته حرفة الأدب

قال مؤرخو الأدب: ولما ولي الأمور أولياء من الأعاجم لا يقيمون للشعر وزناً أهملوا الشعراء، فنصرف هؤلاء إلى الحرف والصناعات، فكان منهم الجزار والحمامي والقصار،

<<  <  ج:
ص:  >  >>