لا أحسب أن مصر قد ظفرت في عصر من عصورها الإسلامية بما ظفرت به في عصر المماليك من مظهر علمي سابغ، وأثر في تاريخ الفكر العربي خالد، وصوت طائر مرنان في أنحاء الإمبراطورية المصرية بما لعلمائها من نفاذ في البصيرة، وعمق في التفكير، وقوة في المناظرة، وشمول في المعرفة، وإحاطة مدهشة بآثار السلف، وإبداع في شتى نواحي العلوم النظرية والشرعية، فمقدار ما وسم به هذا العصر من سطحية في أدبه، وتفاهة في الصور الشعرية المنبعثة عنه، وضعف في الأسلوب الأدبي المتعارف فيه؛ كان عجيباً جهد ما يبلغه العجب في ذلك الجو العلمي السائد به، والروح العلمية الحق المهيمنة على رجاله، على ما كان يفهم من مدلول العلم إذ ذاك. ولا تحسبنا بحاجة إلى الاستشهاد لذلك المظهر الرائع، فإن نظرة عامة إلى كتب الطبقات المصنفة في ذلك العهد مثل الدرر الكامنة، والضوء اللامع وغيرهما تشهد لهذا القول شهادة قاطعة لا تحتمل شبهة ولا تحتاج إلى مراجعة. وبمقدار ما كان يسود هذا العصر من اضطرابات سياسية مترادفة، وفتن في بلاد الأمراء متعددة، حتى لتعد سبعة عشر سلطاناً تولوا أمر البلاد مدة حياة رجل واحد كهذا الذي نترجم له، ثم ما يستتبع ذلك من فوضى في الحياة العامة لا يحدها حد ولا يضبطها ضابط؛ كانت النهضة الفكرية مطردة في سبيلها، والحياة العلمية تقدم للناس أحسن مثلها، والعلماء يقومون على مذهبهم في الحياة بالرعاية والتقدير، لا يكاد يلفتهم عنه ما تعتلج به البلاد من الفتن، وما تموج به من الاضطراب
ولسنا الآن بصدد التعليل التاريخي لهذه الظاهرة التي لا نزاع في حقيقتها، وإنما سبيلنا أن نسجلها هنا لنلفت أنظار بعض القراء عندنا إلى أن التاريخ الفكري شيء غير التاريخ السياسي، وأنه لا ينبغي أن يصرفنا إنكار أحدهما عن الإعجاب بالآخر، وإنا لنرجو أن يتجه البحث العلمي اتجاهاً جدياً دائباً إلى إثارة دفائن هذا العصر العلمي المجيد في تاريخ مصر، وأن يعنى القوم عناية بليغة بكشف آثاره وتنور أسراره، فإن في ذلك متاعاً للروح العلمية التي تتمشى في نفوسنا، وقياماً بحق مصر الكريمة علينا، وتغذية للروح القومية