كانت بغداد محور السياسة الإسلام في المشرق يوم كانت الدولة العباسية في ذروة قوتها وفتوتها؛ وكانت الدولة البيزنطية تتجه يومئذ ببصرها إلى بغداد قلب الإسلام النابض، ترقب حركاتها ومشاريعها، وتتحوط لفوراتها وغزواتها. وكانت المعارك تضطرم بين الدولتين بلا انقطاع تقريبا أيام الرشيد والمأمون والمعتصم؛ ولكن فتوة الدولة العباسية لم يطل أمدها؛ فمنذ أواخر القرن التاسع تسري إليها عوامل الانحلال والوهن، وتخبو فيها فورة النضال والغزو، ويتجه بصر الدولة البيزنطية إلى قوة ناشئة أخرى على مقربة من حدودها الجنوبية. ذلك أن مصر، التي بقيت زهاء قرنين ونصف قرن ولاية خلافية، غدت في ظل الولاة الأقوياء دولة شبه مستقلة، وأخذت تجيش بمختلف الأطماع والمشاريع، وألفت الدولة البيزنطية في قيام الدولة الحمدانية بالشام، وقيام الدولة الطولونية ثم الدولة الاخشيدية بمصر، مواطن جديدة للخطر يجب اتقاؤها. وأخذ ميدان النضال بين الإسلام والنصرانية يتحول من سهول أرمينية وأواسط الأناضول إلى سهول كليكية وشمال الشام. ولما قامت الدول الفاطمية بمصر، رأت الدولة البيزنطية من قوتها وغناها ووفره جيوشها وأساطيلها ما ينذر بتفاقم الخطر، وأدركت أنها تواجه على يد هذه الدولة القوية فورة إسلامية جديدة تضطرم قوة وفتوة وطموحا، وأخذت ترقب حركات الدولة الجديدة ومشاريعها في يقظة وجزع.
وشغلت الدولة الفاطمية مدى حين بخطر القرامطة الذي كان يهددها في موطنها الجديد، ويكاد ينذرها بالمحو والفناء العاجل. وألفت الدولة البيزنطية من جانبها فيما أثارته غزوات القرامطة للشام من الاضطراب والفوضى، فرصة للإغارة على الشام ودفع حدودها إلى الجنوب؛ وكانت الدولة الحمدانية في حلب قد اضمحلت ولم تقو بعد على رد الغزاة من الشمال، ولم تلبث أن انضوت تحت لواء الروم (البيزنطيين) وتعهدت لهم بأداء الجزية استبقاء لحياتها، واتقاء لسطوة الدولة الفاطمية الجديدة. وبينما كان القرامطة يزحفون على مصر، وجيوش المعز الفاطمي تدفعهم عنها، غزا الروم الشام، وعاثوا في سواحله واستولوا