للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[٢ - بين الموسيقى الشرقية والغربية]

بقلم مدحت عاصم

لانعام

يضم جميعا من الخلان حفل يستمعون فيه إلى مغني عذب أو موسيقى شجية، وقد ملكت البابهم النغمة، واستأثرت بمشاعرهم المثاني والمثالث، ولا تتعدى معرفتهم باللحن أو المعزوفة عن أن اسمها كذا، وأن مؤلفها هو فلان، ولكن اخذهم قد يهتف في نشوة من الطرب، ما أحلى هذه الترجيعة (البياتي) أو ما أجمل تلك الحركة (السيكاه)!: فينظر الي رفقاؤه نظرة تقدير واعجاب، ويعتدل هو في جلسته مزهواً مستزيداً من اشارته، وايماءاته، كيف لا وقد وفق لسر من أسرار الانغام وسيرها، وأطلع رفاقه على قدر علمه ومعرفته! ولو عرف الرفاق أن القدرة على تعيين النغمة لمجرد سماعها، إن أعوزها شئ من الخبرة بالمران، فهي ليست من الخطر بالقدر الذي يتصورونه، لاقتصدوا في تقديرهم واعجابهم. أما أنا، فأذكر أني وفقت في صغري إلى جلسة ضمت جمعا من الوافدين من ليلة من ليالي رمضان المكرم، وقد اجتمعوا حول شيخ مقرئ يسمعهم طرفا من المولد، وقد استولى عليهم الطرب الممزوج بالخشوع، ولم يكد ينتهي حتى أسرعوا يكبرون ويمدحون الشيخ المقرئ وبراعته وصوته الحنون القوي. ثم تكلم أحدهم، وكانت له عند الشيخ مكانة وله عليه دالة، فطب قصيدة (يا نسيم الصبا)، وأردف طلبه قائلا (والله يا سيدنا، اني أحب نغمة الصبا هذه، ولا أكاد أحبس الدمع عند سماعها.) فهمهم الشيخ ودمدم وأراد أن يرد الحق إلى نصابه ويمنع الخطأ أن يروج فقال (يا بني هذه القصيدة من نغمة الحجاز). وكأنه شعر بقدر الخيبة التي لحقت الطالب فاسرع بانشادها تعويضا له، فكان هذا أول درس وعيته في علم النغم، وكنت بعدها كلما سمعت نغمة طبقتها على (يا نسيم الصبا)، فأن وافقتها فهي حجاز، وان خالفتها فعلمها عند الله والراسخين في العلم. ومن بعد (نسيم الصبا) عرفت أن مارش (عباس) من نغمة (النهاوند) وأن (يا طالع السعد) (رصد)، وهكذا أصبحت أقيس كل ما أسمعه على معرفته، وبذا أستطيع تعيين نوع النغمة.

غير أن علماء الانغام يرون أن ميزان الإذن قد لا يعدل، وأن هذه الطريقة الساذجة لا تصح أن تكون حجة علمية دقيقة يعتمدون عليها في قوانينهم وأبحاثهم، فهم لذلك يعمدون

<<  <  ج:
ص:  >  >>