للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[المزاح البارد]

للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

كان لنا في المدرسة الابتدائية مدرس لا نراه إلا معبّساً - لا يفتر له ثغر ولا تنبسط له أسارير وجه، ولا تلمع عيناه بنور البشر، لفرط ما يزوي ما بينهما، ولكنه على هذا كان لا يكف عن ركوب زملائه المدرسين ورئيسه الناظر أيضاً بالدعابة التي تجيء أحياناً خفيفة محمولة، وسائغة مستظرفة، وأحياناً أخرى تكون سمجة ثقيلة لا تطاق. فمن لطيف مزحه أن العادة جرت في المدارس بأن يصوّر التلاميذ مع أساتذتهم في آخر العام المدرسي لتبقى الصور ذكرى لعهد التعلم فصففنا أمام المصور - القصار من أمثالي في الصدر، والطوال وراءهم، وجلس المعلمون على كراسي أعدت لهم أمامنا وجيء بكرسي كبير ذي مسندين للناظر، وكان رجلاً جهولاً ولكنه طيب القلب، وجعل صاحبنا يروح ويجيء هنا وههنا ليسوي الصفوف كما يزعم، ويقدم واحداً ويؤخر آخر، ويقبل ويدبر، والناظر قلق يصيح به: (اخلص بقى يا فلان أفندي) فيقول: (حالاً. حالاً إن الله مع الصابرين) ويمضي فيما هو فيه من التسوية والتعديل. وكانت العادة أيضاً أن توضع خلف الصفوف خريطة أم مصور جغرافي كبير فادعى أنه نسي ذلك وذهب يعدو إلى حجرة المدرسين ثم عاد يحمل مصوراً ملفوفاً وعلقه وأبقاه مطوياً ثم صاح بنا: (الآن انظروا كلكم إلى عدسة المصور) ففعلنا ونشر هو المصور الجغرافي وأخذت الصورة فطوى الخريطة وحملها وذهب بها فأعادها إلى حيث كانت، وجاءت الصور وأدى كل من يرغب الاحتفاظ بنسخة منها الثمن المفروض ومضى بها إلى بيته فرحاً مسروراً. ثم تأملناها على مهل في البيوت فإذا مكتوب وراءنا بالخط الثلث: (حيوانات الدنيا)، ولا أحتاج أن أقول أن معلمنا نشر خلفنا مصوراً لحيوانات الأرض من أبقار وجاموس وحمير وخيل وأسود وفيلة الخ لا للكرة الأرضية وقاراتها. . .

ومما أذكره في باب المزاح العملي أن واحداً من أصدقائي كاد مرة يخرب بيتي، فقد زارني فلم يجدني وكنت يومئذ في بيت عتيق له فناء رحيب، فوقف يصفق وينادي، فلما قالوا له إني خرجت قال: (سبحان الله العظيم وهل هذا كلام؟ يُشْبُك بنات الناس ويهرب؟)

وعدت إلى البيت وأنا خالي الذهن مما حدث، فلما دخلت على أهلي قلت: (السلام عليكم)

<<  <  ج:
ص:  >  >>