كما هي عادتي فرأيت أمي تنظر إليّ مقطبة ثم ترخي عينها إلى الأرض، فالتفت إلى زوجتي فإذا هي تنظر إلى الحائط ولا تحول عينها عنه، كأنما عليه رسم ساحر؛ فاستغربت وأنكرت هذا الاستقبال الحافل بالنذر ولكني آثرت التباله، وأقبلت على أمي أريد أن أقبل يدها فتناولتها فنزعتها بعنف وحولت وجهها عني والدمع متحير في مآقيها فزاد عجبي وقلت:(مالكم. . . جرى إيه؟) فصاحت أمي بي: (رح. . . رح إلى حيث كنت
ووجدت زوجتي لسانها فقالت: (أيوه رح إلى حيث كنت)
فتأملتها ملياً وأنا أحك رأسي وأحاول أن أهتدي إلى سر هذا اللقاء الغريب فلم يفتح الله عليّ بشيء، فقعدت أمامهما وجذبت وجهيهما إليّ وقلت:(خبراني ما هي الحكاية فما أعرف شيئاً أستحق من أجله أن ألقى منكما هذه الجفوة)
فأفصحت أمي قليلاً وقالت:(شف بنات الناس. . .)
فقاطعتها:(بنات الناس؟ أي بنات وأي ناس؟
قالت: (هل خطبت؟)
فوثبت إلى قدمي وصحت:(خطبت؟. . خـ. . خـ. .)
فقالت زوجتي:(ألا ترين كيف يتلعثم؟ إن هذا إقرار)
فصرخت وأنا أكاد أجن:(أي إقرار يا ستي؟ أين عقلكم يا خلق الله؟ ألا تكفي غلطة واحدة؟)
ولا أحتاج أن أقول أيضاً أني خرجت بحماقتي من ورطة فوقعت في ورطة. فقد اقتنعت أمي وزوجتي بأن الزواج من أخرى لم يخطر لي على بال، وإن هذا كان مزحاً ثقيلاً من صاحبي ولكن زوجتي ظلت إلى آخر عمرها تذكر قولي:(ألا تكفي غلطة واحدة؟)
ومن الفصول الباردة ما حدث مرة في بيت قريب لنا وكان قد دعانا إلى سهرة في مصر الجديدة حيث كان يسكن، وكان بين الضيوف اثنان من المصريين الذين تعلموا في ألمانيا، فاقترح أحدهما أن يدعو صديقاً له من الألمان ليسمعنا قطعة موسيقية ألمانية فكاهية، وقال إنها:(تميت من الضحك) وأيد زميله قوله، فقبلنا وذهب رب الدار معهما لدعوة هذا الألماني الذي بُشرْنا بأنه سيميتنا من الضحك وكانت شقته في العمارة نفسها فما لبثوا أن عادوا ومعهم رجل وقور، ذو لحية كثة، ووجه رزين، ونظرة صارمة، فجعلت أتعجب فيما