مات ولم يمكث في الأرض إلا واحداً وثلاثين عاماً. ولكنه قضاها كلها حياً، بل لقد كان يستعير مما له في الخلد ليالي وأياماً فأنهكته الحياة: أضنت منه الروح والبدن فانطفأ وهو في أشد اشتعاله وسطوعه
كان هكذا منذ عرفته الحياة، وظل هكذا إلى أن غادر الحياة: طفلاً، فقيراً، عزيزاً لم يذل إلا الله في الحب والغناء
ويا طول ما ذل! فقد غنى منذ أحب، وقد أحب منذ أحس، وقد أحس منذ أمنت أمه أن تطلقه في ربوة (كوم الدكة) يرتع ويلعب مع الصبيان والبنات. فكان يجمعهم ويقوم بينهم على حجر يقرأ القرآن ويرتل الألحان، فإذا أخلصوا له الإصغاء أخلص لهم الإنشاد. . . ولم يكن أحد من هذا الجمع الحالم يدري لمن كان يغني هذا النشوان الضاحك إلا هو وتلك الصغيرة الطاهرة التي كانت تهفو إليه بروحها متلمسة فيه ما لم تكن تجده عند غيره من آيات الصدق ومن آيات الذكاء
وكان إذا افتقدها استوحش ربوته وأهلها، وفر إلى شاطئ البحر يكمن عند صخرة من صخور (السلسلة) يأخذ عن اليم معنى اللين إذا هدأ، ومعنى الثورة إذا اهتاج، ومعنى الكفاح إذا تصارعت فيه الأمواج، ويسرح بالطرف في آفاقه التي من بعدها آفاق، كأنه يستدرج الغيب من ورائها أن يستشفه لعله يرى في إطار منه الصورتين اللتين كان يحب أن ترتبطا. . . فكان يرى ما يشاء، أو لم يكن يرى شيئاً. . . ولكنه كان يسمع، وكان إذا