أخذ الناس في مكة يحسّون شيئاً جديداً يداخل روح الحياة عندهم، وينشر ظلالاً خفيفة من حولهم، ويبعث في أنفسهم شعوراً شديد الغموض لا يتبينون كنهه ولا يتحققون أمره، شأن الجماهير في فجر الأحداث الخطيرة. وكأن لهم من وراء الحواس الظاهرة حساً باطناً لا يستند إليها فيما يدرك، ولا يدرك إلا المعنى العام الذي لا يحدد. وكان الجو في تلك المدينة المقدسة يزخر بشتى التيارات، ويموج بلمحات النبوة ونفحات السماء، كما يموج الأثير بأمواج الكهرباء: تحمل في أطوائها معاني القوة دون مظاهرها، وتخفى في أثنائها الصوت المجلجل، والضوء الساطع، كامنة كمون الروح، خفية خفاء القدر، حتى تتاح لها الظروف المواتية، والحالات الملائمة، فتجهر وتستعلن وتؤدي رسالتها. . . وكذلك كان الأمر في الأيام الأولى للبعثة: تنزل الملائكة وتصعد، ويترادف الوحي ويمتد، ويزخر الجو بنفثات الرسالة، والناس مستمرون في شأنهم، لا يحسون شيئاً إلا حفيفاً لا يعبئون به، ولمحات خفيفة لا ينظرون إليها، حتى تصادف قلباً أعد لها، و (جهازاً) صالحاً لقبولها، فتجهر وتستعلن وتؤدي رسالتها. . .
وفي يوم من هذه الأيام، خرج الرسول، صلوات الله وسلامه عليه، ومعه صاحبه وصفيه أبو بكر، وأخذا يسيران في ظاهر مكة، على نجوة من العيون، وأمنة من الأسماع. يتناجيان نجوى المودة الصادقة، ويتحدثان حديث العقل المتزن، وقد أقبل الرسول على صاحبه ليجد عنده راحة نفسه، وطمأنينة قلبه، لقاء ما ألقى عليه ربه. وبيناهما كذلك لقيا شاباً في نحو العشرين، ضئيل الجسم، ضعيف المنة، آدم البشرة، تلمع عيناه ذكاء وعزيمة وصفاء سريرة يرعى قطيعاً من الغنم، هو ذا عبد الله أبن أم عبد الهذلي، مولى أخوال الرسول من بني زهرة، يرعى غنماً لأبن أبي معيط أحد السادة المتجبرين من بني أمية. فوقفا عليه واستسقياه بعض اللبن فسقاهما، حتى إذا ما فرغا من شرابهما أقبل بدوره عليهما، وأخذ يسائل الرسول عما سمع بعض الناس يهمسون به، من كلام بدع تتضاءل أمامه كل صنوف الكلام، وأمر جديد يتنزل عليه من السماء، يدعو إلى عبادة الله وحده ونبذ الأصنام.