للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الصيام بين عهدين]

والتجدد أو التطور يصيب كل شيء فيجعله أعلى عالٍ أو يردُّه أسفلَ سافل!

كان عهدنا بالصوم قبل اليوم أن يكون عصياناً للنفس في طاعة الله، وحرماناً للجسم في مَبرَّة الروح، ونكراناً للذات في معرفة الناس؛ فالجوارح مغلولة عن الأذى، والمشاعر مكفوفة عن الشهوة، والخواطر مستغرقة في الدعاء، بين نهار كله إحسان وتأمل وتصدُّق، وليلٍ كله قرآن وتواصل وتهجُّد؛ فلا الغنيُّ يهيج به البطر، ولا القوي تفرط عليه القدرة، ولا الفقير يتجهم له الحرمان، وكأنما زالت الفروق بين الناس فأصبحوا سواسية في نعمة الدين وسعادة الدنيا!

كان الرجل الدنيوي الشهوان إذا أقبل عليه رمضان تاب وتطهر، فلا يفتح فمه لِهُجر، ولا عينَه لفحش، ولا أذنَه للغو، ولا قلبَه لخطيئة. يقضي يومه مضطرباً في المعاش على أفضل ما يكون الخلق؛ فإذا كان تاجراً لا يدلِّس، أو صانعاً لا يزوّر، أو عاملاً لا يُفرِّط، أو معاملاً لا يخون. ويحيي ليله في استماع القرآن ومواصلة الإخوان ومُوادَّة ذوي القربى؛ فإذا ما انقضى بعض الشهر بدا عليه شحوب الصوم وذبول الصلاة وكلال السهر وخشوع الورع. فلو كنت حاضر ذلك العهد لرأيت رمضان عيداً قومياً ودينياً يؤكد أسباب القرب بين الله وعباده، ويوثق عرى الحب بين الشعب وأفراده

ذلك عهدنا برمضان الأمس؛ أما رمضان اليوم فبحسبك أن أصف لك حياة من حيوات القاهرة فيه؛ وتستطيع أنت أن تصور لنفسك الطور العجيب الذي آل إليه شهر القرآن والعبادة

هي أسرة لا أقول إنها مثال لكل الأسر؛ ولكنها استجابت لنوازع التجديد الأبله استجابة الإِمَّعَة فأصبحت تمثل ما عسى أن يكون بين التقاليد والتقليد من التناقض المضحك

ميم باشا يتبوأ منصباً من مناصب الدولة الرفيعة. بلغه بعد حياة طويلة كادحة، تبتدئ من القرية الحقيرة والأسرة الفقيرة والوظيفة الخاملة، وتنتهي إلى هذا الجاه العريض والثراء الضخم والمنزل المرموق؛ فهو وزوجه من عهد، وابناه وبناته الثلاث من عهد؛ والتفاعل بين هذين العهدين هو الذي أحدث هذه الظاهرة التي تجدها اليوم في أكثر بيوت القاهرة. لابد لهذه الأسرة أن تصوم؛ ذلك حكم النشأة وسلطان العادة. ولابد كذلك لهذا الصوم المتزمت الجافي أن يتسع باله وترق حواشيه إذا ما استضاف هذه الأسرة. فهو يسبل

<<  <  ج:
ص:  >  >>