هذه سياحة في مكان واحد تحققت فيها وحدات (أرسطو) الثلاث فلم نتجاوز بيت أستاذنا العقاد، ولم نعد شطرا معينا من نهار، وانحصر نظرنا في مشهد واحد هو مشهد الحوار بين العقاد وصاحبه، فجاءت سياحة فريدة في بابها، وكأنما حسب المؤلف أن تحتاج إلى دفاع فقال:(إن السياحة يا صاحبي لها حجتها الناهضة فما هي بحاجة منا إلى حجة جديدة. ولكن المكث في المكان الواحد أيضاً له حجته التي تضارع حجة السياح ولا تقصر عن شأوها، فإذا كانت مشاهدة الأمصار ومداولة الديار تعلمنا الحكمة وتبصرنا بألوان الحياة فاعلم يا صاحبي أنني لا أعرف شيئاً ينفذ بنا إلى حقائق الآمال والمخاوف، وبواطن الأفراح والأحزان، كمراسنا لها في المكان الواحد الذي يقل فيه التغيير).
ولكنها في الواقع لم تكن محتاجة إلى هذا الدفاع فهي سياحة حقيقية في معارض الآراء والفلسفات ومسارح الأذهان ومحافل الموسيقى، ومواقع المذاهب، ومعاني البطولة، ومجاني الشعر، ومغاني الصور. ولم يكن العقاد فيها سائحا بقدر ما كان ملاحا وأستاذا في جامعة من هذه الجامعات التي حدثونا أن السفينة جدرانها، والأفق العريض سبورتها، وأمواج البحور مدرجاتها؛ رحلة دسمة زاخرة بالمشاهد لا أدري كيف استطاع هذا النوتي الماهر أن يطويها في هذا الزمن القصير وهو ١٣٢ صفحة من ورق (أقرأ)، وذلك في طمأنينة مريحة لم تشعر السفر بدوار ولا تركتهم يحسون إحساس المعجل عن التقصي وملء النفس من روائع الجزر والمرافئ.
في هذه الرحلة أو في هذا الكتب تعرض على القارئ أمور كثيرة منها: النور والتملي فيه وسيلة وغاية، الروح والمادة والشان العملي لبحوث ما وراء الطبيعة، فلسفة النسك، مذاهب السخط والتشاؤم وبيان ما فيها من هدم وبناء، نقد المذاهب الشيوعية والنازية والفاشية، الموسيقى وتصوير المعاني والنسبة بين الموسيقى الشرقية والغربية، آداب الطرب، الموازنة بين عظماء الفنون وعظماء الدعوات العملية، الموازنة بين جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وسعد زغلول، فلسفة التغذية وعلاقة الأطعمة برقي الأمم، شرح بعض الصور