للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[أعظم حادث في حياة روسو:]

٢ - روسو ومدام دي فرنس

للأستاذ محمد عبد الله عنان

والحقيقة أن مدام دي فرنس نفثت في جان جاك ضرباً غريباً من السحر والجوى، لا هو بالحب الجنسي الخالص، ولا هو بالحب البنوي الخالص، ولا هو بالصداقة الحميمة، بل كان مزيجاً من ذلك كله، يقترن بنوع من عبادة الجمال والسحر، وعاطفة عميقة من العرفان وشكر الصنيعة. وسنرى أن له إلى جانب هذه الناحية الأفلاطونية ناحية أخرى. وعلى أي حال فقد كان لهذا السحر الذي بثته مدام دي فرنس في جان جاك أعظم أثر في تكوين عواطفه وفلسفته في الجمال والحب والمرأة، وكان مستقى خياله ومشاعره في بضعة الأعوام التالية التي اكتمل فيها شبابه، وتفتحت أمامه عوالم الحياة. وفي ظلال هذه السعادة أقام جان جاك معززاً مكرماً يقضي أوقات فراغه في القراءة ودرس الموسيقى والأحلام اللذيذة، والسمر مع مدام دي فرنس. وكان يشعر أن السعادة قد بلغت ذروتها، وأنها لذلك لن تدوم، ويرتجف فرقا كلما تصور يوم البعاد وانقضاء هذا العهد الأمثل.

وأقام روسو على هذا النحو زهاء عام وبعضه، ثم رأت مدام دي فرنس أن ترسله إلى ليون لقضاء بعض المهام، فسافر إليها، ولم يغب سوى أيام قلائل. ولكنه لما عاد إلى أنسى لم يجد (أمه) وموئل سعادته، ولم يستطع أن يعلم شيئاً عن غيابها سوى أنها سافرت إلى باريس مع خادمها كلود آنيه، فلم ير سبيلا سوى الانتظار، وأقام وحده بالمنزل يتنسم أخبارها وموعد عودها، وهو يدرس الموسيقى ويؤلف الأناشيد. وهنا يقص علينا روسو عدة حوادث غرامية تافهة وقعت له خلال هذه الفترة. وكانت معرفته بالموسيقى سبباً في اتصاله ببعض الهواة. ولما طالت غيبة مدام دي فرنس، سافر إلى جنيف، ثم إلى نيوشاتل، وهناك استقر حيناً يكسب عيشه بتدريس الموسيقى، ولكن شبح مدام دي فرنس كان يساوره أبداً، وكان العود إليها أبداً أعز أمانيه، فلم تمض عليه بضعة أشهر في هذا التجوال حتى عاد إلى سافوا وكانت مدام دي فرنس، قد غادرت يومئذ أنسى إلى شامبرى واستقرت هناك. فسافر إليها وتحققت أمنيته بالمقام إلى جانبها كرة أخرى، واستطاع بنفوذها أن يحصل على وظيفة في ديوان مسح الأراضي في تلك الناحية نفسها، فكانت سعادة

<<  <  ج:
ص:  >  >>