قال وهو يقلب كفيه من الهم، ويعض على يديه من الغضب: سقط الوزير سقوط الورقة الجافة قبل أن يمضي القرار بالوظيفة، فهل رأيت مثل هذا الحظ المتخلف والقدر العابث؟. . .
فقلت له: هون عليك يا بني، ولا تسلط على نفسك أساك، إن معك الشباب القادر، والأمل الطموح، والثروة المساعدة، ودبلوم الزراعة التي تفتح لك كنوز الأرض، وتدر عليك أخلاف السماء، وفي القرية متسع لأمثالك ممن يحيون مواتها، ويجددون حياتها، ويفيضون على أهلها نعمة العلم، وخير المدنية، ونعيم الحضارة؛ فلِمَ لا تستأجر مزرعة في بعض دوائر الأمراء تجرب في استغلالها كفايتك وإرادتك وحظك؟ إنك إذا فعلت عصمت نفسك من رق الوظيفة، وخلقك من فتنة الحكومة، وعلمك من آلية العمل، ورزقك من تحديده بالمرتب، وقدرك من قياسه بالدرجة. فأجاب وفي عينيه سهوم العجب من هذا الرأي: مالي أدفع بنفسي في هذه المغامرة المجهولة، والوظيفة تضمن حاضري بالمرتب، وتؤمن مستقبلي بالمعاش؟ والقليل المتصل خير من الكثير المنقطع، والموضع المتطامن المتماسك، أصلح للقرار من الرفيع المترجح. . .
فقلت له: ذلك كلام لاكته الألسن حتى تفه، وتقبلته الآذان حتى سمج، ولقد كان له مساغه وبلاغه يوم كانت المدارس معامل لتخريج الكتبة والحسبة للحكومة؛ فأما اليوم وقد امتد أفق التعليم، واتسع نطاق المنهج، وانفسح مجال العمل، وتحققت الحرية للفرد، وتيسر الارتجال للشباب، وحان الحين ليسترد المصريون جماعات ووحداناً مرافق بلادهم وموارد أرزاقهم من الأجانب، فإن الإخلاد إلى المقاعد الأميرية إخلاد إلى العجز، واطمئنان إلى الهون، وانخزال عن تحرير الوطن.
قال: ولكن فريقاً من الشباب ارتجلوا بعض الأماني الاقتصادية الجماعية في التجارة والزراعة والملاهي، فوردوا عن خسارة وصدروا عن فشل. فقلت له: إن هؤلاء فاروا عن حرارة وفتية، وثاروا عن ريح عابرة، فاعتسفوا الأمر قبل أن يخبروه، وزاولوه دون أن يفرغوا له، واخطئوا تقدير المنافسة الأجنبية فأخطئهم التوفيق؛ ومالك تقيس أمرك بهذا المقياس المختل وأمامك المقاييس العليا تتواثب في عينيك من كل مكان؟ ألم تر إلى اليوناني أو الطلياني كيف يفد عليك من غير رأس مال، ولا شهادة جامعة، ولا توصية