وزير، ولا تعضيد جمهور، ولا تحميس صحافة، فيحترف وضائع الحرف، ويحتمل مكاره الفوز، ويتفرع معالي الأمور في روية وصبر، حتى بلغ به نشاطه أن يدير عمارة المدينة، ويصرف تجارة القرية، وينثج زراعة العزبة، فيبيع عليك غلة أرضك، ويستعبدك بربا مالك، وأنت جالس جلسة الأجير على مكتبك الحقير، تكنس لنعليه الطرق، وتشق لعينيه الحدائق، وتكفل لمتاجره الأمن، وتدبر لمزارعه الماء، وتتقبل على ذلك كله دغل الصدر وقسوة اللسان وقحة النظر!
رأى صديقي الفتى أن لهجتي لا تلائم همه الغالب، ومنطقي لا يساير منطقه اليائس، فتولى عني غير راض ولا مقتنع، وتركني أحدث نفسي، وأقارن بين يومي وأمسي، فأجدني بين عملي المقيد الذي انصرفت عنه، وعملي الحر الذي انصرفت إليه، أشبه بالسجين المقيد يعمل برأي غيره، ولحساب غيره، فلا يتحرك ولا يسكن إلا بأمر، ولا يسير ولا يقف إلا في نظام، وهو يأكل حين لا يشتهي، وينام حين لا يريد، ويستيقظ حين لا يحب، وتتعطل ملكاته حتى يصبح كالإنسان الصناعي: قوة محركة وآلة، ثم يدركه لطف الله فتتفكك عنه السلاسل وتتفتح له الأبواب، فيجد عقله في النور، وخلقه في الطبيعة، وحريته في الجو، ووجوده في المجتمع! فينبت الريش الناسل، ويخفق الجناح المهيض، وتتكشف الآفاق الجديدة!
إن أولى الناس بالرثاء لأولئك الذين سلبوا جوهرة الحياة وحرية العيش، وعاشوا في ظلام الوجود مكبين على مكاتبهم، مغلولين عن الحركة، مكمومين عن الشكوى، يستقطرون الرزق من شق القلم، ولا يصيبون من أجورهم سداداً من عوز ولا غنى من فاقة.
يدخل الموظف الديوان وهو ابن عشرين، فيودع عاماً ويستقبل عاماً حتى يأخذ بِمُخَنَّق الستين وكأن لم يحدث في العالم شئ! يختلف الليل والنهار، وتتبدل الأحوال والأطوار، وهو على مكتبه الضيق في غرفته المظلمة، يعمل ساعة ويجتر أخرى، دون أن يشعر بدوران الفلك، أو يفطن إلى حركات العالم.
يدخل الديوان وهو طرير الشارب، أثيث الجمة، ريان من الشباب والقوة والأمل؛ ثم يودعه وهو مخدد الوجه، أشيب الشعر، متداعي الجسم، فقير من المنى والذكر والمال، لا يصلح إلا عموداً في مسجد، أو منضدة في قهوة. وربما أقصدته المنون لانقطاعه بغتة عما ألف