للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[بعد الرصافي. . .]

للأستاذ عبد الوهاب الأمين

الآن ختم جيل الشعر في العراق، وانطوت صفحة أخيرة من كتابه، بعد أن فاضت روح معروف الرصافي، فقد توفي صباح يوم الجمعة الماضي، المصادف ١٦ آذار سنة ١٩٤٥ في الأعظمية ببغداد.

وبموت الرصافي تبدأ صفحة جديدة في عالم الشعر العراقي، وتنتهي سلسلة الشعراء الكبار الذين امتدت حياتهم بين القرنين التاسع عشر والعشرين، والذين كان أخرهم في العراق - قبل الرصافي - جميل صدقي الزهاوي.

وحياة الرصافي تختلف عن حياة كل من عاصره من الشعراء من عدة وجوه. وليس المجال متسعاً للإفاضة في تاريخ حياته، لأن ذلك لا يتسع له مجال محدود، بل الأجدر أن تقوم فئة بتدوين حياته تدويناً علمياً، ولكن نقطة الاختلاف التي أشرت إليها تنحصر في عقدة نفسية كانت بارزة فيه. هي شدة حبه المطلق للحرية بجميع معانيها، حتى لقد كان هذا الحب الجارف أشبه بالقيد الذي قيد حياته، وأثر في نفسه تأثيراً عظيماً. فهو من قبيل القيد النفسي الذي تقيد به العبيد والمتصوفون. ومن مظاهر هذا القيد الخفي في نظري، حياته الأخيرة البائسة قبيل وفاته، حيث انزوى وانقطع عن العالم، وأصبح يعيش مهملاً.

ومن المآسي النفسية أنه كان في وضعه ذاك يأنف أن يشار إلى حالته بغير ما لا يأتلف وكرامته الجريحة. فقد أذاع بياناً على الناس قبيل وفاته رفض فيه النغمة التي كانت ترددها بعض الصحف عن بؤس حالته وقال إنه يتبع فلسفة أبي العتاهية الذي يقول:

حسبك مما تبتغيه القوت ... ما أكثر القوت لمن يموت

وهذه حركة تدل على أنفته وكبريائه الجريحين اللتين خفف من حدتهما السن والمرض.

ولقد أدى الإهمال وسوء الحال بصحة الرصافي إلى التردي يوماً بعد يوم مع أنه يملك جسماً يكاد يكون عملاقاً. ومن مميزاته الشكلية وضوح النظرة، وجهارة الصوت، وقوة العارضة.

عرف الناس الرصافي الشاعر الذي لا حدود لصراحته ولا رقيب على لسانه غير ما يعتقد، منذ زمن بعيد، كما عرف بكرمه الزائد وعدم انصياعه للضرورة مهما كان شكلها.

<<  <  ج:
ص:  >  >>