للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[الهجرة]

للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

يبدو لي من مراجعة السيرة النبوية الشريفة أن الهجرة إلى المدينة لم تجيء عفواً ولا كانت من وحي الساعة، وإنما كانت خطة محكمة التدبير طال فيها التفكير بعد أن اتجه إليها الذهن اتجاهاً طبيعياً أعانت عليه الحوادث

وكان النبي عليه الصلاة والسلام في أول الأمر يشير على المسلمين الذين ضاقوا ذرعاً بما كانت قريش تنزله بهم من الأذى أن يتفرقوا في الأرض، وينصح لهم أن يذهبوا إلى الحبشة ليأمنوا الفتنة عن دينهم ويرتاحوا من العذاب الغليظ الذي كانت قريش تصبه عليهم حتى يأذن الله بالفرج. وأكبر الظن أنه كان يريد أن يؤمن هؤلاء المسلمين على دينهم من ناحية، وأن يحمل قريشاً على التوجس من عاقبة هذه الهجرة الأولى إلى الحبشة عسى أن تفيء إلى الاعتدال والهوادة. ومن الثابت على كل حال أن قريشاً أزعجتها هجرة بعض المسلمين إلى الحبشة فبعثت إلى النجاشي برسولين منها ومعهما الهدايا ليقنعاه برد هؤلاء المهاجرين إلى مكة، ولكني لا أظن أنه كانت لهذه الهجرة إلى الحبشة غاية أبعد من ذلك، فما كانت أكثر من معاذ إلى حين، وتدبير ألجأت إليه الحاجة لما اشتدت المحنة بالمسلمين، وتلويح لقريش بإمكان العون والمدد من هذه الناحية. على أن بعد الحبشة واختلاف أهلها ولغتها ودينها ثم الثورة التي ما لبثت أن شبت على النجاشي وكان من أسبابها إيواؤه المسلمين والعطف عليهم - كل هذا كان من شأنه أن يصرف عن الحبشة ويدعو إلى التفكير فيما هو أصلح منها

واختلف الحال في مكة أيضاً إلى حد ما بعد أن أسلم عمر ورفض الاستتار والاستخفاء، وشرع يناضل قريشاً ويدفع المسلمين إلى الصلاة في الكعبة نفسها، وأسلم رجال غير قليلين من قريش، فصارت لجاجة قريش في تعذيب المسلمين وتقتيلهم كما كانت تفعل غير مأمونة العاقبة. نعم ظلت قريش تؤذي المسلمين وتسيء إليهم، ولكن المسلمين كثروا وصار محمد يعرض نفسه على القبائل وإن كان لم يفز بطائل كبير ولا كفت قريش عن مساءاتها إليه

وقد كبر الشأن واتسعت رقعة الأمل، ولكن التفكير في أمر قريش وفي الراحة من عنتهم وفي الوسائل المؤدية إلى نشر الدين بأسرع مما ينتشر بقي واجباً ملحاً، ولاسيما بعد أن

<<  <  ج:
ص:  >  >>