حسبك أن تندس في اللحاف ... وخشية البرد على الأطراف
(ابن وكيع التنيسي)
- ٢ -
يرغم الناس في فصل الشتاء على الدخول في حرب مع الطبيعة فمنهم الفقير الضعيف الذي لا يطيق هذه الحرب، فيشكو ويتألم، ويسخط ويتبرم، حتى يتمنى لو فتحت له أبواب جهنم ليدخل فيها هربا من شدة البرد وقسوته، قال أحد الشعراء:
أيا رب هذا البرد أصبح كالحا ... وأنت بصير عالم ما تعلم
لئن كنت يوما في جهنم مدخلي ... ففي مثل هذا اليوم طابت جهنم
لقد كاد الشاعر يتجمد من شدة البرد، وأنساه هذا الهول ما يمكن أن يلاقيه من عذاب النار. فتضرع إلى الله أن يعجل بإدخاله جهنم، فهي عنده مكان صالح لأن يعيش فيه بعيداً من بطش البرد الذي كاد يفتك به.
وهذا شاعر آخر يتمنى لو مات واستراح من عناء الشتاء وآلام البرد. قال:
فليت هذا الشتاء الصعب مذ وقعت ... عيني عليه افترقنا فرقة الأبد
برد لو أن الورى جاءت تبايعني ... على الخلافة لم أقدر أمد يدي
وفي هذا المبالغة ما فيه. فالشاعر مع شدة فقره وعظيم احتياجه إلى ما يدفع عنه غائلة الشتاء يقول لو أن الناس ذهبوا ليبايعوه بالخلافة لما استطاع من قسوة البرد أن يمد يده ويتقبل البيعة.
وهذا شاعر آخر يصف ليلة من ليالي الشتاء فيقول:
فنحن فيها ولم نخرس ذوو خرس ... ونحن فيها ولم نفلج مفاليج
وحسبك هذا المنظر. قوم جمدوا في أماكنهم من شدة البرد فكأنهم قد أصيبوا بالخرس والشلل فلا يستطيعون كلا ما ولا حركة.
وهكذا تنافس الشعراء في اختراع الصور وابتكار المعاني التي تترجم عن مشاعرهم