للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[المدارس الأدبية]

للأستاذ عباس محمود العقاد

من الحكايات الإنجليزية المروية أن بنتاً من بنات الفلاحين وصلت إلى العاصمة فرأت جنوداً مصطفة وزحاماً من الناس على جانبي الطريق وشرطا يذهبون وخيلا تعدو بفرسانها كوكبة بعد كوكبة، فعجبت لهذه الحركة التي لم تعهدها في قريتها وسألت ما الخبر؟ فقيل لها إنه الملك يعود إلى قصره من هذه الطريق. فوقفت تنظر مع الناظرين حتى عبر بها الملك في مركبته فنظرت إليه وهي لا تصدق ما تراه، وصاحت بمن حولها: عجبا! انه إنسان مثلنا، فلماذا يجتمع الناس لينظروا إليه.

هذه البنت الريفية توجد في كل بلد وفي كل زمن، لأن الدنيا لن تخلو يوما من أولئك الذين يغلو بهم وهم السماع فلا يعرفون الواقع حين يرونه، ويحسبون أن الأمور التي يتحدث بها الناس ينبغي أن تبدو للأنظار والأسماع على غير ما تألف وتعتاد.

وليس هذا بعجيب في أخلاق الجهلاء، ولكنه عجيب ولاشك حين يتصف به أناس يحكمون في الأدب والفكر ويقيمون الحدود بين الكتاب والشعراء ويزعمون أنهم يعرفون ويملون المعرفة على الذين لا يعرفون!

ومن هؤلاء كاتب في صحيفة سورية تناول ما كتبته (الرسالة) عن بعض المدارس الأدبية فقال كما قالت تلك البنية الساذجة: عجبا! أن هؤلاء إلا أناساً كسائر الناس، فكيف يكونون أصحاب مدارس في الكتابة أو الشعر كأولئك الذين نسمع عنهم من وراء البحار؟

وأظهر شيء تدل عليه تلك الدهشة أن (البنية الريفية) التي كتبت في تلك الصحيفة السورية لا تعرف مدرسة واحدة من مدراس الأدب في الغرب ولا في اللغة العربية، وإنما تعرف تلك المدارس على الوهم الذي يخيله إليها السماع ولا يتمثل لها لحظة في صورة الفهم الصحيح.

ولو لم تكن تلك (البنّية الريفية) كذلك لأدركت أن الأدب الغربي - منذ أربع أجيال على الأقل - لم تنشأ فيه مدرسة واحدة صنعت في أدب قومها بعض الذي صنعه أدباء العربية في الجيل الحاضر والجيل الذي سبقه، لأن الآداب الأوربية تجري منذ ألف سنة في طريق واحدة يتقدم فيها السالكون خطوة بعد خطوة ومرحلة إثر مرحلة، ولا ينتقلون فيها إذا انتقلوا

<<  <  ج:
ص:  >  >>