قلت لك في حديثي الأول أنه بتعمل وتكلف كبيرين نستطيع أن تقتطع نظرية الخير والسعاد لأرسطو لدراستها وتعمقها: فإن هذه النظرية جزء من أخلاقه، والأخلاق جزء من مذهبه، والمذهب في جملته صورة للفيلسوف وعصره وبيئته.
ومن ثم، فإنه لكي تفهم الجزء المطلوب إليك دراسته حق لفهم، يجب أن تضعه في مكانه من الهيكل العام لفلسفة الأرسطية يجب أن تلم بحياة الفيلسوف، وتصنيف كتبه وترتيبها، ثم مذهبه في المنطق والطبيعة وما وراء الطبيعة ثم الأخلاق والسياسة، إلماماً تستطيع معه أن تبين مبلغ الانسجام في عناصر المذهب الأرسطي كله في صلته بالبئة اليونانية.
ليس تاريخ حياة الفيلسوف ذا أهمية إلا بمقدار ما يلقى من ضوء على جوانب فلسفته وما يكشف عن بواعث آرائه وفكره. وسترى أرسطوا في أخلاقه - كما هو في كل نواحي فلسفته، رجلا واقعياً تجريبياً تقوم آراؤه على منطق المشاهدة. ونتائج الملاحظة، في عصر مشبع بالخيال الأفلاطوني، والمثالية المتطرفة والأدب والفن. . . وذلك لما تيسر له من التربية الصحيحة في البلاط المقدوني حيث الترف والتفرغ للعلم وجمع النماذج والإحصاءات. . . هذه التربية التي لم تستطع العشرون سنة التي قضاها في أكاديمية أفلاطون أن تغير من أثرها القوي، فما يزال يختلف مع أستاذه حتى يتخرج عليه - أو يتوفى هذه عنه - أبعد ما يكونان في منهج، كل منهما وفلسفته:
يختلف المنهج عند أرسطو عنه عند أفلاطون، فإن هذا الأخير يسير على طريقة أستاذه سقراط في الحوار والجدل (الديالكتيك) الذي أدخله لأول مرة في اليونان زينون الإيلي في دفاعه عن وحدة أستاذه برميتدس وسكونه بحججه المشهورة، والذي عد أفلاطون إمامه وعمدته حتى أثر به في الأدب اليوناني خمسين سنة كما يقول المؤرخون.
أما أسلوب أرسطو فاسلوب عملي رصين، تذهب به الدقة والتحديد في اللفاظ والمصطلحات إلى حد الغموض أحياناً، ولكنها لا تؤدي به إلى استطراد أو إيجاز يخل أحدهما بمدلول القول. قد يكون هذا التقسيم لكتبه إلى أبوابها وفصولها وفقراتها بهذه