البراعة والأحكام من عمل الشراح الكثيرين الذين تتلمذوت على أرسطو تسعة عشر قرنا أو تزيد (حتى بعد عصر النهضة الأوربية بين القرنين الرابع عشر والسادس عشر)، ولكن مما لا شك فيه أن هؤلاء الأتباع والمفسرين ما كانوا ليصلوا إلى تصنيفها بهذه الدقة والسهولة والنظام، لو لم تكن هي مرتبة في فكر صاحبها وفي كتاباته بهذه الصورة.
وإنك لتلمس لأرسطو منهجاً خاصا في دراسة موضوعات كتبه مما تقرأ في موضوع الأخلاق الذي أنت بسبيله: فإنه إذ يحدد لك منذ البدء غاية دراسته التي يهدف إليها تحديداً واضحاً بالأمثلة يسرد لك كل ما قيل حول هذه الدراسة من آراء. وهنا يقال إن أرسطو كانت معلوماته أوسع ما في زمانه، وأنه في مرحلة دراسته الطويلة التي قاربت الأربعين سنة قد استوعب كافة النظريات في العلم والفلسفة التي ظهرت، فهو يورد لك طرفاً منها فيستبعد الخاطئ بعد نقده، ويستبقي الصواب بعد إنصافه وحمده، فيتقصى مشاكله ويزيد عليه بما يوءدي إلى النتيجة السليمة والحل الواقعي الصحيح. . والأخلاق لها عند أرسطو منهج يستقيه من مشاهدة واقع الحياة وملاحظة أمور الناس؛ وهو المنهج العلمي الصحيح لهذا العلم في عصرنا الحديث كما يقول به فلاسفة الإنجليز من الاخلاقيين. فعلى الأخلاق في نظرهم أن تعرض لدراسة ما هو كائن فعلاً لا كما يجب أن يكون.
وللأخلاق مكانها من فلسفة أرسطو، فإن لأرسطو في هذا الفن كتابين آخرين غير الأخلاق النيقوماخية المنسوب إلى نيقوماخوس ابن أرسطو من زوجته الثانية أربليس، الذي خلد في شخصه أسم أبيه هو، وخلد هذا في كتاب الأخلاق الذي أهداه إليه. أما الكتابان الآخران في الأخلاق، فأحدهما يسمى الأخلاق إلى أوديموس، وهو أسبق من أخلاق نيقوماخوس وأقل دقة وأحكاماً. والثاني يسمى الأخلاق الكبرى. وفيه يلخص أرسطو في مقالتين اثنتين ما سبق أن أورده في الكتابين آنفي الذكر.
والمكان الذي أريدك أن تضع فيه الأخلاق الأرسطية بهذا المعنى وفي مصادرها هذه أحب أن تنظر إليه من ثلاثة وجوه: مكان دراسة الأخلاق من مراحل حياة أرسطو ذاتها، في أي مرحلة هي؛ وهذه المصادر ذاتها أين يأتي ترتيبها في جملة مؤلفات أرسطو حسب تنصيف المؤرخين لها؛ ثم أخيراً الأخلاق كعلم وفن أين موقعها من العلوم الأخرى.
أما من حيث مكان الدراسة الأخلاقية من حياة أرسطو فتستيطع أن تقول إنها تأتي في دور