(هذه الصور من وحي عهد كان لنا بالسودان، وكان لنا فيه
أهل بأهل وإخوان بإخوان. . .)
المفرق:
هنالك على مبعدة من الخرطوم ومقربة من أم درمان يلتقي النيلان: الأبيض والأزرق. وكم وقفت أشاهد هذا الاقتران الدائم الخالد، وكم تفرجت بمرأى الموجة الزرقاء تجد في أثر البيضاء، هذه تتدلل وتتلوى، وتلك لا تيئس ولا تني، حتى تدركها أخر الأمر، فتمتزجان. وقد تعطف البيضاء على الزرقاء، فتسيران كحبيبين يمشيان الهوينى عطفا إلى عطف، حتى إذا قطعتا شوطا أمنتا بعده أعين الرقباء امتزجتا. . .
ولست أنسى تلك الليالي القمرية التي كان مديرو حديقة المقرن ينظمون فيها حفلات موسيقية راقصة، ولم يكن همي أولئك الراقصات من بنات الروم اللائى يملأن الخرطوم، ولا موسيقى الجيش المصري - لم يكن أولئك، وهن قيد النواظر. . . ولا هذه، على جلال خطرها، ليمنعاني من التسلل بين الأشجار على شاطئ النيل الأزرق، حتى أبلغ ذلك الرأس الذي ينتهي عنده الشاطئان المنتهيان، فأنظر كيف يتم اتحاد النيلين، على اختلاف اللونين. . . ثم يحتضن الشاطئان الباقيان النيل المتحد، فيسير بينهما، يبعث الحياة في واديه، ويومئ بالوحدة بين بنيه. . .
ساقية المرغني:
والنيل الأزرق قبل أن يلتقي بالأبيض يمر بشمال مدينة الخرطوم متجها إلى الغرب، وعلى شاطئه مما يلي المدينة شارع طويل واسع جميل، يبتدئ من شرقي الخرطوم إلى غربيها، ثم يدعها سائرا مع النيل الأزرق إلى المقرن
وذلك الشارع من أجمل شوارع الدنيا. . . يقع فيه قصر الحاكم العام، وقصر السيد المرغني، ومنزل مفتش الري المصري، وفندق فخم يسمى (الجراند أوتيل)، وما عدا ذلك دور لكبار البريطانيين. وقد وقفت على جانبيه أدواح ممتدة الأغصان كثيفة الأوراق، تكاد