وضعت الثورة العرابية أوزارها، وقضى على كثير من زعمائها بالنفي إلى جزيرة سيلان التي تقع جنوبي بلاد الهند؛ ففي أواخر عام اثنين وثمانين وثمانمائة وألف أبحرت السفينة من مصر تقل البارودي ومن معه من الزعماء إلى هذه الجزيرة، وقد رست السفينة بهم في ثغر كولومبو حيث قدر للشاعر أن يعيش مع رفقائه سبع سنوات، سئم فيها تلك الحياة، وهؤلاء الصحب، فرحل إلى كندي العاصمة القديمة للجزيرة، وهي مدينة في الداخل مرتفعة عن سطح البحر ذات مناظر جميلة ومناخ صحي، وظل بها البارودي عشر سنوات أخرى
غادر البارودي وطنه وعمره أربع وأربعون سنة، لم يفارق بعد عهد الشباب والفتوة، وظل في منفاه سبعة عشر عاماً فقد فيها القوة والشباب، وفي هذه الغربة الطويلة كان البارودي في وحدة نفسية موحشة، فرفقاؤه الذين سافرا إلى كولومبو قد انقلب بعضهم على بعض، كلّ يلقي تبعة ما حل بهم على رفيقه، وكل يضمر لصاحبه الحقد ومر العتاب، ولعل نصيب البارودي من موجدتهم كان عظيما بمقدار ما كان له من يد في الثورة وشئونها، فتبرّم بهم، وآثر أن يعتزلهم، ويصم أذنيه عما تلوكه ألسنتهم، وما يتحدثون به عنه في غيبته
ولم يكن نصيبه في كندي بأفضل من ذلك، لأنه أضطر إلى الوحدة يقوم بشئونه فيها خويدم أسود، ذلك أن سكان هذه المدينة لا يعرفون اللغة العربية، فلم يستطع أن يجد من بينهم رفيقاً مؤنساً، يخفف عنه آلام وحدته وغربته، ولعل هذا هو ما دفعه إلى أن يعلم بعض أبناء هذه البلاد اللغة العربية عله يجد منهم من يفهم عنه ويجعله صديقاً، ولكنه لم ينجح في لقيان هذا الصديق، واضطر إلى معاشرة من لا تستريح نفسه إليه
وجد البارودي نفسه إذا في وحدة مؤلمة، فاتجه إلى الشعر يتخذ منه الأنيس الرفيق، والصديق المخلص، يبثه آلامه، ويناجيه بأحلامه وأمانيه، ونستطيع أن ندرس شعره في تلك الفترة من الزمن، فنجده صورة صادقة لما كان يعتلج في صدره حينئذ من الأحزان والآمال، وإنه لصادق حين قال في إحدى قصائد منفاه: