للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[بعث القديم]

للدكتور محمد مندور

ليس من شك في أن ثقافتنا الحديثة تقوم كما قلنا في المقال السابق على أساسين: بعث التراث العربي القديم والأخذ عن أوربا، ولقد كان للحملة الفرنسية في ذلك أبلغ الأثر وذلك لأمرين: نقل الطباعة إلى مصر وفتح منافذ بلادنا على العالم الغربي. ولا ريب في أن عودة الفرنسيين إلى بلادهم حاملين آلات الطباعة التي كانوا قد أتوا بها إلى مصر قد أخر نهضتنا الثقافية ما يقرب من جيل، وذلك لأننا لم نستطيع أن نستخدم الطباعة بعد ذلك إلا في سنة ١٨٢٢ أي بعد الحملة الفرنسية بعشرين عاماً، وإذا ذكرنا أن حركة البعث العلمي في أوربا لم تصب ما أصابت من نجاح في القرن السادس عشر بعد الميلاد إلا بفضل تلك الطباعة، أدركنا أن نهضتنا الثقافية الواسعة لم تبدأ في حقيقة الأمر إلا منذ استخدامنا لآلات الطباعة على نحو مطرد أي منذ سنة ١٨٢٢ كما قلنا، وإنه وإن تكن الجمعيات العلمية التي ألفت لنشر الكتب لم تتكون في حقيقة الأمر إلا بعد ذلك بكثير؛ فجمعية المعارف التي أسسها محمد عارف باشا لا ترجع إلى أبعد من سنة ١٨٦٠ وهي تشبه في تكوينها إلى حد بعيد لجنة التأليف القائمة الآن وشركة طبع الكتب العربية التي كان من أعضائها حسن باشا عاصم وأحمد بك تيمور لم تتأسس إلا سنة ١٨٩٨؛ إلا أن حركة البعث أقدم من ذلك بكثير فهي لم تنتظر تكوين الجمعيات لتبدأ، ولعل انتشار الأفكار الأوربية بفضل أعضاء البعثات كان من أهم الدوافع لذلك البعث، فرجل كرفاعة الطهطاوي قد فطن بلا ريب أثناء إقامته بفرنسا إلى أن النهضة الأوربية التي رآها قد ابتدأت بحركة بعث قوية للآداب القديمة لاتينية ويونانية، ولهذا كان يؤمن بأن نهضة بلادنا لا يمكن أن تعتمد على النقل عن أوربا فحسب، بل يجب أن تعنى إلى جانب ذلك ببعث القديم العربي

ولقد ظهرت آثار هذا البعث في الشعر قبل ظهورها في النثر، وأكبر شخصية تمثل بعث الشعر هي بلا شك شخصية محمود سامي البارودي، وتلك ظاهرة من اليسير فهمها، فالنثر الذي كان شائعاً عندئذ لم يعد أن يكون: إما نثراً تعبيرياً يستخدم في التأليف العلمي أو في الصحافة، وإما نثراً شخصياً كالذي نجده في الرسائل، والنوع الأول لم يكن يخلو من عجمة في الصحف ومن نزعة للجدل والتعقيد في التأليف. والنثر الشخصي ظل نثراً مسجوعاً

<<  <  ج:
ص:  >  >>