لقيته في مكتبة كان من عادتي أني أرتادها كل يوم فألبث فيها ساعة أو نحوها كما يرتادها غيري من المشتغلين بالأدب والواغلين عليه، ومن أهل العلم والأدعياء فيه، فيقلبون المكتبة إلى ناد أدبي، أو قاعة للجدل والمناظرة، فلا يكون حظ صاحبها المسكين من تجارته إلا الكلام، تمتلئ به أذناه، وجيبه من المال خال. . . وهل عاش قط وراق على أديب؟ ومتى كان عند الأدباء مال حتى يشتروا؟ إن الناس بين رجلين: رجل يحب الكتب ولكنه لا يجد ما يشتريها به، ورجل عنده مال ولكنه لا يحب الكتب. فيا بؤس الوراقين بين هذين الرجلين!
لقيته ولم يكن لي شرف معرفته، فنسبوه إليّ وعرفوني به:(الأستاذ فلان) فقلت الكلمة التي يضطرني النفاق الاجتماعي إليها: (تشرفنا) كأننا كنا قبل لقائه على غير شرف. . . وانتظرت منه أن يتكلم لأضعه في منزلته؛ وقديماً قال من لست أدري من هو:(إنك لا تعرف منزلة الرجل حتى يتكلم، فإذا تكلم رفعته أو وضعته) أو ما هذا معناه فما احفظ الكلمة على أصلها. . . ولم يطل الرجل بحمد الله انتظاري، وراح يلقي كلاماً أقرّ على نفسي بأني لم أفهم منه حرفاً، اللهم إلا كلمات تتردد فيه لها في أفرادها معان، وليس لها في جملتها معنى، من أمثال:(الوعي الطبقي) و (التقدمية واللاتقدمية)، وطفق يسرد أسماء إفرنجية لها أول وليس لها آخر، ثم قفز قفزة إلى التاريخ، فعاب علينا أننا نكتب في التاريخ، ونؤلف الكتب عن أبي بكر وعمر، وساق في ذلك كلاماً على نحو كلامه الأول، ثم جاء بالطامة فقال بأن سورة (الناس) ليس فيها من بلاغة القول شئ، وزعم أن كاتباً من أبلغ كتاب العربية في هذا العصر (ذهب مغفوراً له) قال: لو أن تلميذاً كتبها لي في امتحانه لأعطيته الصفر. . .
فلم أعد أطيق على وقاحته وجهالته صبراً. وللمرء أن يتكلم في الأدب أو في النقد، ويطيل أو يقصر، ويعرض جهله أو علمه، وسفاهته أو تهذيبه، فالناس يميزون الخبيث من الطيب ويعرفون المحق من المبطل؛ وما كل من قال كلاماً كان بليغاً، ولا كل من أمسك بقلم ونشر