كلا يا صديقي! لا أريد أن تبيض صحيفتي! كان العشاق لا يطيقون الرقيب وله عين، فكيف يطيقونه اليوم وله عين ولسان، وقلم سلطان؟ دعنا من حديث شرق الأردن والعراق والجامعة، وتعال أحدثك حديثا رفيقا رقيقا، إن خلا من الفائدة فلا يخلو من اللذة، وإن بعد عما يشغل الناس فلا يبعد عما يشغل النفس:
أم عامر قروية شيخة، تعد الستين في سرها، ولكنها كسائر النساء لا تجاوز الثلاثين في جهرها. وهي في سبيل التدليل على استحارة شبابها واكتمال قواها تتحامل على نفسها، فتحلب الجاموسة، وتملأ الزير، وتخبز الفطير وتكنس الدار وتكسح الزريبة وتعلف الماشية وتطهو الطبيخ، وتحمل في عنقها مفتاح الحبوب والنقود واللبن والكرار، فلا يستطيع أحد من أولادها وأحفادها أن يصل إلى شئ من أولئك إلا عن يدها. فإذا أشفقت عليها كنتاها ورغبتا في أن تعيناها على شان من شؤون المنزل، قالت لهما في كبرياء وأنفة: أنا لا أزال صبية مثلكما! عليكما الغيط، وعلي البيت! والحق أن السيدة أم عامر قوية ذكية: تمرست الشدائد فازدادت مرة، وتصرفت في الأمور فاكتسبت خبرة واضطربت في المعاش على هوى الزمن القلب فتعلمت بالتجربة، وتفلسفت بالسليقة؛ فكلامها حكم، وحديثها أمثال ورأيها حجة. ومن أجل ذلك تميزت شخصيتها في المجتمع الريفي فأصبحت كالعرافة في العهد القديم، تستخيرها كل امرأة، وتستشيرها كل أسرة. وهي إلى ذلك طويلة الأنف تدسه في كل منزل، شرفاء الأذن ترهفها إلى كل مجلس؛ فلا يقع في العزبة حادث أو حديث إلا كان عندها علمه ومن لدنها ذيوعه.
رأيتها صباح يوم من أيام ديسمبر في الجرن تنزع الأغلفة عن أمطار الذرة المنداة وحفيدها الصغير نائم على كتفها، وكلبها الأبقع رابض بقربها، وحمائم البرج القريب ينتهزن غفلتها النادرة فيقعن من وراء ظهرها على جانب المفرش يقتلعن الحب من قوالحه، وكان الفلاحون ونساؤهم قد خرجوا إلى الحقول، صغارهم ليسيموا الأنعام في البرسيم الغض، وكبارهم ليطهروا المصارف من الغرين الراسب، فلم يبق في الضيعة إلا عجوز تستدفئ بالشمس، أو طفلة تلعب في الطين، أو دجاجة تبحث في الأرض. فأغراني هدوء المكان ودفء الجو، وما سمعته عن حال العجوز، على أن أذهب إليها، فحييتها ثم جلست إزاءها على أعواد الذرة اليابسة وسألتها: كيف حالك يا أم عامر؟ فأجابت العجوز بلهجة تنم على